تُونُسْ لَمْ تَعُدْ تُؤْنِسْ، وَخَضَارُهَا صَارَ خَرَابًا، فَرَحْمَةْ لَمْ تُرْحَمْ: تَكَاتَفَتْ عَلَيْهَا الِابْتِلَاءَاتُ بَشَرًا وَقَدَرًا، ثُمَّ قُتِلَتْ ظُلْمًا وَغَدْرًا..
وَفَرَحْ لَمْ يَكُنْ لَهَا مِنِ اسْمِهَا نَصِيبٌ، حَتَّى مَاتَتْ جَوْعًا وَفَقْرًا، وَقَالَتْ فِيهَا أُمُّهَا وَمَا كَذَبَتْ: إِنَّهَا عَاشَتْ عَطْشَى، وَمَاتَتْ بِمَاءِ الْبَالُوعَةِ وَقَدْ رَوَتْ مِنْهُ الظَّمَأَ..
أَمَّا هَيْفَاءْ، فَقَدْ هَافَتْ صَدِيقَتُهَا، حَتَّى مِنْ غَيْضِ قَتْلِهَا امْتَلَأَتْ، طَعَنَتْهَا عَدِيدَ الطَّعَنَاتِ وَمَا اكْتَفَتْ، وَلَوَتْ حِجَابَهَا عَلَى رَقَبَتِهَا فَمَا اطْمَأَنَّتْ حَتَّى مِنْهَا انْتَهَتْ.. وَكَمْ صَدِيقٍ يَأْكُلُ لَحْمَ صَدِيقِهِ حَيًّا، فَلِمَ تَعْجَبُونَ أَنّ سَامِيَةْ فِي جَنَازَةِ هَيْفَاءَ مَشَتْ؟
وعبد الرزاق كان حيًّا يُرزقُ، يريد أن يسترزقُ في كشكٍ صغيرٍ يراه كبيرا، أخذه التعبُ فنام فيه وما قامَ، ثم استيقظت تونسْ على صوتِ معاولِ البلدية، ووجدت الكشكَ فوقَ صاحبِه ركامًا
حطاما سحقا ذلا مهانة يا حكامَ الخيانةِ يا خونةَ الأمانة..
أَمَّا آدَمُ، وَقَدْ نَسِيتُمُوهُ، فَقَدْ عَادَ إِلَى الْجَنَّةِ الَّتِي أُخْرِجْ منها، بِتُفَّاحَةٍ هَذِهِ الْمَرَّةَ لَا يَحْمِلُ إِثْمَهَا.. دَعُونِي أُذَكِّرْكُمْ أَنَّهُ ذَهَبَ مَعَ وَالِدِهِ سَائِرًا عَلَى قَدَمَيْهِ لِيَحْتَفِلَ، طِفْلًا يُشِعُّ رَبِيعًا كَبَدْرٍ مُكْتَمِلْ كَانَ يُرِيدُ أَنْ يُطْفِئَ شَمْعَةً في ذِكْرَى مِيلَادِهِ، وَيُرْسِلَ شَيْئًا مِنْ بَهْجَةِ نُورِهَا إِلَى فُؤَادِهِ، لَكِنه بغدرِ غادر، غادرَ نورَ الحياةِ إلى ظُلمةِ المقابر..
هَلِ اكْتَفَيْتُمْ؟
أَمْ نَسِيتُمْ؟
نَسِيتُمْ مَهَا.. مَنْ بِذَهَابِهَا غَابَتْ مَهَاةُ أَهْلِهَا، تِلْكَ الَّتِي جَرَفَهَا الْوَادِي، كَأَنَّهُ يَقُولُ لها: يَا بُنَيَّتِي تَعَالَيْ، أُعْتِقُكِ مِنْ فَقِرِكِ، كَأَنَّهُ رَقَّ لِجَمَالِ عَيْنَيْهَا، وَأَرَادَ تَخْلِيصَهَا مِنْ وَاقِعٍ يَطْمِسُهَا، يَفْتَرِسُهَا، يُنَكِّلُ بِبَرَاءَتِهَا، يَحْرِمُهَا طُفُولَتَهَا..
هَلْ تَذْكُرُونَ عَمْدُونْ؟
أَنَا مُتَأَكِّدَةٌ أَنَّكُمْ تَذْكُرُونْ، تِلْكَ الْحَادِثَةَ الَّتِي فِيهَا أُزْهِقَتْ مِنَ
الْأَرْوَاحِ واحد وثلاثون.
أَيُّهَا الْمُناِفُقوَن الظَّالِمُونَ، الْآكِلُونَ لُحُومَ الْبَشَرِ،
أَيُّهَا الْفَاسِدُونَ الْمَارِقُونَ،
يَا مَنْ تَسِيرُونَ فِي الْجَنَائِزِ كَأَنَّكُمْ مَالِكُونَ كُلَّ الطُّهْرِ، بَرِيؤُونَ مِنْ أَيِّ وِزْرْ.. يَا مَنْ تَلْعَبُونَ مَعَ الْقَدَرْ.. كَيْفَ تَطْمَئِنُّ نُفُوسُكُمْ؟ وَتَهَدَأُ وَتَخْلُدُ إِلَى نَوْمٍ مُسْتَقِرّْ؟
كَيْفَ لَا يؤَنِّبُكُمْ ضَمِيرُكُمُ المُسْتَتِرّْ؟
كَيْفَ لَا يَهْدَأُ كَلْبُكُمْ المَسْعُورُ وَتَسْتَبِيحُونَ حُرْمَةَ الْأَرْوَاحِ دُوْنَ حَقٍّ أَوْ ثَأْرْ؟
تَاللهِ لَا يَنْفَعُ فِيكُمْ لَوْمٌ وَلَا عِتَابٌ، فَبِكُمْ مِنَ الْمَكْرِ وَالدَّهَاءِ مَا دَوَّخَ الشَّيَاطِينَ وَحَيَّرَ الْأَوْلِيَاءَ،
مَا لَوْ رآهُ ذِئْبُ يُوسُفَ لَقَالَ:
أُشْهِدُكَ اللهُ أَنِّي أَيْضًا مِنْ هَؤُلَاءِ بَرَاءْ.