الإثنين 04 مارس 2024
20°اسطنبول
27°أنقرة
31°غازي عنتاب
26°انطاكيا
29°مرسين
20° اسطنبول
أنقرة27°
غازي عنتاب31°
انطاكيا26°
مرسين29°
34.06 ليرة تركية / يورو
39.73 ليرة تركية / جنيه إسترليني
8.62 ليرة تركية / ريال قطري
8.37 ليرة تركية / الريال السعودي
31.39 ليرة تركية / دولار أمريكي
يورو 34.06
جنيه إسترليني 39.73
ريال قطري 8.62
الريال السعودي 8.37
دولار أمريكي 31.39
...

من ضرائب اللجوء .... حين ينفلت العِقد الاجتماعي!

15 ديسمبر 2020، 02:59 م

تزدحم مراكزُ وصالاتُ الفنادق بأوراقٍ ولقاءاتٍ عن بناء عقد اجتماعي في سورية يجمع أطياف الشعب في حياة سليمة، فتنطلق الأقلام والألسنة يميناً وشمالاً في مساوئ نظام البعث، ومخاطر انفلات العقد الاجتماعي بعد شلال الدماء الذي أجراه منذ اغتصب السلطة؛ وليس مع انطلاق ثورة الكرامة عام 2011.

وبعيداً عن "سواليف" الساسة والشرعيين والقانونيين في العقد الاجتماعي السوري، ومثل ذلك بالبُعد كلام الفلاسفة والمفكرين في معنى العقد الاجتماعي وأثر الحكومة فيه؛ تلمّستُ قضايا اجتماعية من حياتنا تعطي واقعية أكثر عن حياة السوريين الاجتماعية وماهية التعاقد الذي وصلوه مع اللجوء والتشرّد.

فيومَ زرتُ قريبي فُوجئت برجلٍ غريبٍ عندهم، لكنّ الغرابة في قصته أكبر؛ فقد اختلف مع زوجته وتركتْه مع الأطفال، فلم ترجع مع الوساطات حتى يخرج من البيت؛ لأنها كانت ترجع بعد كل مشكلة تحدث على شرط ألا تكلمه، فلا يمرّ يومان حتى يدسّ إليها شفاعةً لا تُردُّ، فيصطلحان ويعود البيت في حبّ ووئام؛ ولذا اشترطت هذه المرة أن يخرج قبل وصولها، فلما وصلت غيّرت مفتاح البيت، فلجأ الزوج المشرَّد إلى بيت صديقٍ لصديقه؛ وما زال فيه منذ أشهر!

فاستحضرتُ يومَها مختلف النظريات الاجتماعية والتربوية لتحليل الحادثة؛ دون جدوى للوهلة الأولى، وما زلتُ أرى الرجل حتى آخر زيارة، ففوجئت بأنه ذهبَ! فحمدتُ الله وحسبت الشفاعات بين الزوجَين قد نفعت، لكنّ المفاجأة اكتملت بأنه جمع أغراضه مع أولاده للعودة إلى أهله في سورية؛ فقد خلعتْه زوجتُه وأرسلتْ له الأولاد، ثم عادت تحاول سرقتهم وهو في العمل؛ فهرب بهم إلى الشمال رغم إغلاق الحدود!

وحين بدأت تسويد بعض الحوادث أخبرتْني زوجتي عن "امرأة" معها في المركز النسائي تدخّن بكثافة ولـمَّا تدخل العشرين من عمرها؛ فلما أرادتْ استلطافها بالحديث لتمتنع عن التدخين نَهرتْها، فألحّْت عليها لتتركه، قبل أن تصدم زوجتي بأنها بدأت التدخين وهي في سنّ التاسعة؛ لأن والدتها طُلقت وهي طفلة، فعاشت حياةً مريرةً مع زوجة أبيها، قبل أن يُسجن والدها فلا تجد لها مهرباً إلا في التدخين قبل بلوغها العاشرة!

وأشد من تلك الحادثة قبحاً وألماً: رجلٌ طلَّق امرأته؛ ولعل له ما يبرّر فعله، لكنه تزوّج بأخرى معها أولاد، فاشترطت عليه ألا يكون أولاده من طليقته معهم في البيت، لتكون معه ومع أولادها من زوجها السابق؛ فأرسلَ أولاده ليعيشوا في مركز إيواء أيتام، وبعد المراجعة والتوبة جعل أطفاله "السابقين" في بيت سفلي ليعيش من زوجته "الجديدة" في بيت فوقهم!

ولا أنسى ذاك الطفل الأشقر عند إشارات المرور يبيع المناديل، وما زلت أشتري منه وأتلطّف إليه حتى أسرَّ إليّ أن زوج أمّه لا يسمح له بالعودة قبل بيعه الكمية اليومية، وإن اضطر للتخلف عن المدرسة حتى يبيعها؛ فهذا شرطه على أرملة الشهيد التي "سترَ عليها"!

ولو فتحت صندوق الطلاب الصغار لَوجدته أشد سواداً وألماً؛ فثلاثة أشقاء كانوا يأتون بحالٍ يظهر عليهم فيها اليُتم من مراحل لأن أمَّهم رفضت اللجوء إلى تركيا، فدخل بهم أبوهم وتزوّج امرأة أخرى!

وأقبح منه ذاك الذي ترك امرأته وأطفاله وذهب فتزوّج أخرى في بلد آخر؛ فلما نفثت غاضبةً لنفسها وأطفالها اتصل ابنها اللاجئ في أوربا يسبّها ويشتم الربّ عزّ وجلّ استنكاراً لِمَا فعلتْه الأمّ؛ وليس لفعل والده بأمّه!

وزوجٌ لئيمٌ تُصاب امرأته بحروق إثر قذيفة قرب خزّان الوقود الذي كان يعمل هو فيه، فيرميها ويتزوّج بأخرى؛ ولم يقف هنا، لكنه صار يمرّ بها يستهزئ بخلقتها ويقول لها: ممسوخة ممسوخة؛ حتى سحبتها منه منظمة إنسانية تقوم بأمرها، فحرمَها من أطفالها لأنهم يخافون منها للحروق التي فيها!

وأما الحاصلون على الجنسية التركية فالحقّ يقال: إن بعضاً منهم كانت الهوية التركية أكبر عليه من عقله، فخسرَ كثيراً من توازنه معها؛ حتى صار يُتندَّر في المجالس بصعوبة السوري المجنَّس أكثر من التركي مع السوريين الذين يُبتلون ببعض أمورهم عنده؛ أَوَ عاقلٌ مَن يُجادل سائقاً سورياً مسكيناً في أجرة مشوار، فلا يقبل الغُبن، فيهدّده: "لا تزعجني؛ فأنا صرتُ تركيّاً وأستطيع أن أؤذيك وأرحّلك"؟!

.... ولو أراد المرءُ بسطَ ما يعيشه في واقع اللجوء اليومَ من أحداث اجتماعية قد لا تتجمع في دراسات أكاديمية لمشاكل حياة الناس لَطالَ الأمر وقسا جداً، ولكنها أمثلة مريرة عن أناس كان يسترهم مفهوم "العيب" مرةً، ومفهوم "لا يصحّ" مراتٍ، لينفلت الناس من كل عِقال، حتى لَتشعر أن الناس اليومَ سُكارى؛ وما هم بسُكارى، ولكنها أفعال لا تصدر عن عقلاء يدركون حقيقة ما يفعلون! بل تبلغ أن تشكّ بسلامة عقلك لكثرة المجانين والسكارى من حولك!

وإلا فهل يُتصوَّر لرجل أن يزوّج ابنته وهي في السادسة عشرة فقط لأنّ الخاطب العظيم معه إقامة في دولة أوربية!

أو أن يشترط آخر في عروسته أن تحمل الجنسية التركية، وإن تنازَل فيقبل بها إن دخلت "السستم" مع التدقيق في أي مرحلة وصلت!

أو يشترط أبٌ عشرة آلاف دولار في يده لأن ابنته تحمل بكالوريا مع الجنسية ودفعَ على تهريبها إلى تركيا ذاك المبلغ!

فهذه النماذج هي التي يُضرب بها الطبل؛ وتُنسى بجانبها فتاةٌ احترقت وشُوهت وزوجها ما زال معها يحملها كالطفل بين ذراعَيه، ويُنسى فيصل الذي فقدَ بصره وكل حواسّه فوقفتْ خطيبته معه وتزوّجته ورُزقت منه بمولود، فتقوم به وبمولودهما خير قيام ... واذكر مِن ذلك عشراتٍ ومئاتٍ.

ولكنّ بيئة اللجوء الهشّة تَئِد الحَسَن ويطفو فيها كل قبيح، لتشتعل به الماكينات الإعلامية.

وليس هذا إغضاءً عن تلك المصائب من سُكارى الناس؛ فالمصابُ في الحياة الاجتماعية للسوريين اللاجئين – وقد لا يكون الحال في الداخل بأفضل – كبيرٌ جداً، وتحمل المنظمات المدنية مسؤولية كبيرة للتخفيف منها عبر برامج توعية اجتماعية ضرورية، لمعالجة التشوّهات التي تضرب حياتنا الاجتماعية اليوم.

وليس بأقل منها مراكز الدراسات والبحوث؛ فوقائع كثيرة يلزمها درس علمي مستفيض، لأنها خارجة عن النواميس، فضلاً عن خروجها على العادات والتقاليد!

والضحية الأولى في هذه المعارك الاجتماعية المنفلتة هم الأطفال؛ فالتنشئة الاجتماعية لها خطرها في رسم هوية الطفل وتحديد شخصيته، يقول الدكتور علي أسعد وطفة: (الشخصية تشكيل ثقافي تتحدد طبيعته بطبيعة الحاضن الثقافي الذي نشأ في رعايته، والأسرة هي أمضى سلاح يعتمده المجتمع في عملية التنشئة الاجتماعية، وفي بناء شخصية الفرد القادر على الفعل والمبادرة والإبداع)؛ فكيف إن كانت الأسرة هي الخنجر الذي يُغرز في خاصرة الطفل؟!

فإهمالُ مفردات المشاكل في الحياة الاجتماعية والعمل عليها من المجتمع بمختلف مؤسساته يؤدي إلى ما صرنا نراه من شذوذ، حتى في الانفصال؛ فواحد يقتلع عينَي زوجته، وثانٍ يحرقها ويرميها، وثالثٌ يذبحها أمام صغارها ...... وأمثلة من الشذوذ والسادية يصعب كتابتها؛ فكيف بسماعها وحدوثها على الحقيقة!

إن الحياة الاجتماعية للسوريين في خطر شديد، وليس حلّاً أن نهرب إلى قوقعة "المؤامرة" و"المظلومية"، وأن نرميها على النظام والعملاء؛ فهذه حياتنا نحن، وبأيدينا نبنيها أو نهدمها؛ لكن الخطورة أن نخطئ في التأسيس، ثم نجلس لنلطم عند انهيار المبنى فوق الرؤوس!

فخيرٌ للسوريين من مناقشة قضايا المنطقة، ومخاطر زيارة فلان وتصريح علّان، والتحليل السياسي والاقتصادي في القريب منا والبعيد؛ أن ننصرف لدراسة مشاكلنا الاجتماعية بواقعية، لاسيما بعد الفشل في العمل السياسي والعسكري، بل وفي بعض العمل الإنساني؛ ولكنْ بعيداً عن الإسفاف والابتذال الحاصل في وسائل "التقاطع الاجتماعي"، قبل أن تبلغ مشاكلنا حدّاً يتعذّر فيه الإصلاح، فنقول فيه: "ليت أنّ.. ليت أننا"!