الإثنين 04 مارس 2024
20°اسطنبول
27°أنقرة
31°غازي عنتاب
26°انطاكيا
29°مرسين
20° اسطنبول
أنقرة27°
غازي عنتاب31°
انطاكيا26°
مرسين29°
34.06 ليرة تركية / يورو
39.73 ليرة تركية / جنيه إسترليني
8.62 ليرة تركية / ريال قطري
8.37 ليرة تركية / الريال السعودي
31.39 ليرة تركية / دولار أمريكي
يورو 34.06
جنيه إسترليني 39.73
ريال قطري 8.62
الريال السعودي 8.37
دولار أمريكي 31.39

الديوث

28 سبتمبر 2021، 10:00 ص
الديوث
الديوث

الديوث

إعداد

الدكتور أبو فاطمة عصام الدين بن إبراهيم النقيلي

 

يا ناظرًا فيمَا عمدتُ لجمعـــــــــهِ * عذرًا فإنَّ أخَا البصيرةِ يعـــــــــذرُ

واعلمْ بأنَّ المرءَ لوْ بلغَ المـــدَى * في العُمرِ لاقَى الموتَ وهوَ مقصِّرُ

فإذا ظفرتَ بزلَّةٍ فافْتحْ لــــــــــهَا * بابَ التَّجاوزِ فالتَّجاوزُ أجـــــــــــدرُ

ومنَ المحالِ بأن نرَى أحدًا حوَى * كُنهَ الكَمالِ وذَا هوَ المتعــــــــــــذِّرُ(1)

 

-----------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------

(1) عَلَمُ الدِّينِ الْقَاسِمُ بْنُ أَحْمَدَ الأَنْدَلُسِيُّ ، كتاب "أسنى المقاصد وأعذب الموارد"

 

أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ

الرَّجِيمِ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ ۚ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ ۚ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ ۖ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا[النساء: 34].

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الإهداء

 

أهدي هذا العمل البسيط إلى كل رجل مسلم غيور على دينه وأهله وعرضه.

أهدي هذا العمل البسيط إلى المتشبهين بسلفنا الصالح.

أهدي هذا العمل البسيط إلى أهل السنَّة والجماعة عامَّة.

أهدي هذا العمل البسيط إلى كل امرأة عرفت قدرها وصانت بعلها، وسمعت وأطاعت في ما يرضي الله تعالى، وأدت حقوق زوجها على قدر طاقتها، واتقت الله فيه، وعلمت أن لا سبيل إلى مرضاة الله تعالى إلَّا عن طريق مرضاة بعلها.

 

 

 

 

 

 

 

مقدِّمةٌ

إنَّ الحمدَ للهِ نحمدهُ ونستعينهُ ونستغفرهُ ونعوذُ باللهِ منْ شرورِ أنفسنَا ومنْ سيِّئاتِ أعمالنَا، منْ يهدهِ اللهُ فلَا مضلَّ لهُ ومنْ يضللْ فلَا هاديَ لهُ، وأشهدُ أنَّ لَا إلَهَ إلَّا اللهُ وحدهُ لَا شريكَ لهُ وأشهدُ أنَّ محمَّدًا عبدهُ ورسولهُ .

يَا أَيُّهَا الَّذِين آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقّ تُقَاتِهِ وَلَاتَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران: 102].

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَّاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا و بَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَّنِسَاءً وَّاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُون بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُم رَقِيبًا[النساء: 1].

يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُم وَيَغْفِرْلَكُم ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُّطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا[الأحزاب: 70 - 71].

أمَّا بعدُ: "فإنَّ أصدقَ الحديثِ كتابُ اللهِ تعالَى، وخيرُ الهديِ هديُ محمَّدٍ ، وشرُّ الأمورِ محدثاتهَا، وكلَّ محدثةٍ بدعةٍ، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٍ، وكلَّ ضلالةٍ فِي النَّارِ(1).

-------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------

(1) أما بعدُ فإنَّ أصدقَ الحديثِ كتابُ اللهِ، وإنَّ أفضلَ الهديِ هديُ محمدٍ ، وشرَّ الأمورِ مُحدثاتُها، وكلَّ مُحدَثةٍ بدعةٌ، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ، وكلَّ ضلالةٍ في النَّارِ أتتْكم الساعةُ بغتةً - بُعِثتُ أنا والساعةُ هكذا - صبحَتْكم الساعةُ ومستْكم - أنا أولى بكلِّ مؤمنٍ من نفسِه - من ترك مالًا فلأهلِه - ومن ترك دَيْنا أو ضَياعًا فإليَّ وعليَّ - وأنا وليُّ المؤمنين.

الراوي : جابر بن عبدالله، المصدر : صحيح الجامع، الرقم: 1353.

التخريج : أخرجه النسائي في (المجتبى) (3/ 188)، وأحمد (3/ 310) باختلاف يسير.

 

 

 

وبعد: فإنَّ الفطرة السليمة والجبلَّة الأصليَّة في الإنسان هي الغيرة على أهله، فقد كان سلفنا الصالح أشد الناس غيرة على نسائهم، وكيف لا وغيرة الرجل على نسائه هي مظهر من مظاهر الرجولة لأنَّها تتجلَّى في صيانة العرض وحفظ الحرمات، فضلا على أنَّ الغيرة مأمور بها شرعا تصريحا وتلويحا، فقد كان سلفنا الصالح يتباهون بغيرتهم، بل كانت نساؤهم تتباهى بغيرة رجالهم عليهم، وكان الحال كذلك حتى ترك المسلمين دينهم بتقليدهم لدول الاستعمار، الذي ما انفكَّ يهاجم الإسلام فلم يجد له سبيلا إلَّا عن طريق نساء المسلمين، بحجَّة المساوات بين الذكر والأنثى في الحقوق، فما خرج الاستعمار من بعض دول المسلمين حتى ركَّز فيهم عقائده المنحطَّة التي تتمحور في حريَّة المرأة الذي بدورها انجرَّ عنها تعرِّي النساء بكل معنى الكلمة، فابتدروا بنزع النقاب وذلك عن طريق مشايخ الضلال الذين أفتوا في ذلك في عصر الفتنة، والصحيح أنَّه حتَّى ولو كان في وجوب النقاب خلاف فهو في وقت الفتنة واجب بالضَّرورة، ثمَّ كان بعد ذلك طلب استقلال المرأة عن تبعيَّة الرَّجل، فمنع من أمرها ونهيها، فقد كان الرجال حينها فيهم شيأ من الغيرة ولكنَّهم قيِّدوا بالتخويف والترهيب، ثم كان بعد ذلك منع الحجاب الشرعي جملة وتفصيلا، بل أصبح القانون يعاقب عليه ولا زال الأمر إلى الآن في بعض الدول، فعرَّت المرأة شعرها، فكان الأمر كذلك حتى دخل عليهم ما يُسمُّون بالفنَّانين، فزادوا الطين بلَّة، فأرادت المرأة المسلمة تقليد الفنانين في اللباس، بدعم من زعم حرَّية المعتقد واللباس والمساوات بين الجنسين، ومعاقبة القانون على نهي المرأة بالعنف، فنشأ بعد ذلك جيل جديد لم يرى أصل المرأة الحييَّة الديِّنة، فضاعت جبَّلته وفطرة السليمة، بين بحور ضلالات التقليد، وبين مجتمع لا ينكر على المرأة شيأ، فكان الأمر عنده سيان، بل وصل الأمر إلى التنكير على المرأة المحجَّبة الساترة لبدنها، وبقى الحال كذلك حتَّى صار الرِّجال في بعض الدول الإسلاميَّة لا يهتمُّون بلباس زوجاتهم وبناتهم، بل يشترون لهم ذلك اللباس المغري الفتَّان للرجال ويتباهون بذلك، بل يحملون بناتهم للبحار كي يسبحن عراة، ولا حول ولا قوَّة إلى بالله العلي العظيم، ونسوا وعيد رسول الله للديوث، بقوله: "ثلاثٌ لا يدخلون الجنةَ ولا ينظرُ اللهُ إليهم يومَ القيامةِ العاقُّ والدَيه والمرأةُ المترجلةُ المتشبهةُ بالرجالِ والديوثُ..."(1)، فيا ويح هؤلاء من غضب الله تعالى، فهذا داء عضال ولا يصاب به إلَّا عديم المروءة فيعجب المرء حين يرى هؤلاء من أشباه الرجال يشترون لنسائهم الثياب التي تكشف أكثر مما تستر، وتشف وتصف مفاتن الجسد وهو فرحٌ باطلاع الناس على عورات نسائه ومن ولاه الله أمرهن، مفاخر بتحررهنَّ من العفة والفضيلة وسيرهنَّ في طريق الفاحشة والرذيلة، ومثل هذا ميت في لباس الأحياء، ولمَّا كثر هذا الأمر في بلد المسلمين حتى اعتادوه ونبَّه المشايخ على الأمر حتَّى نسوه، ثمَّ تهاونوا في هذا الموضوع حتَّى أضاعوه، فأردت تجديد الذكر لعلَّهم يتداركون ما وراء أظهرهم رموه، فكتبت هذه الصفحات في غضب وسرعة وحرقة في القلب تكاد تقتلني ودمع حبسه الغضب على حال المسلمين، حتَّى أنَّه والله العظيم إنَّ إماما أعرفه يصلي بالناس وابنته شبه عارية متبرجة، فلا نهاها ولا تبرَّأ منها، فمن المعلوم أنَّه يوجد في هذا الزمان رجال مستضعفون لكن الله لم يجعل لنا في الدين من حرج، فكل ما ضاق الأمر وُسِّع برحمة من الله تعالى، فإن كان الرجل مستظعفا تحت وطأة القوانين الفسقيَّة، فله أن يتبرأ بقلب مخلص، ولكن هيهات هيهات، إنَّ البراءة لا تكون إلَّا من قاوم وجاهد وحاول مرارا وتكرارا، حتَّى انقطعت به السبل، فهذا مأجور على في سعيه، ولا يتصف بأي وصف من أوصاف الديَّاثة، فنسأل الله تعالى العفو والعافية والسلامة في الدنيا والآخرة، وأسأله سبحانه أن يقبل مني هذا العمل البسيط فإنَّه جواد كريم رحيم.

 

وكتب: الدكتور أبو فاطمة عصام الدين

------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------

 

(1) مسند أحمد 6180.

 

فصول الكتاب:

1 – تعريف الديوث لغة واصطلاحا.

2 – أحاديث وأخبار في ذم الدياثة.

3 – غيرة رسول الله .

4 – غيرة الصحابة رضوان الله عليهم.

5 – غيرة المسلمين.

6 – هل الديوث مؤمن؟

7 – كيفيَّة استحلال الدياثة.

8 – أنواع الديوث.

 

9 – الفرق بين الديوث والشاذ.

 

10 – هل للديوث بأنواعه من توبة؟

 

11 – عذاب الكاسيات العاريات.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الديوث لغة:

الديوث: صفة مشبه من اسم الفاعل للفعل داثَ.

والديُّوث: صفة مشبَّهة تدلّ على الثبوت من داثَ.

والدِّياثة: مصدر داث.

وداث يديث ديثا إذ لان وسهل.

تقول: دَيّثَ فلانا: ذلَّـلَهُ حتى لان وسَهُلَ وانْقاد.

ودَيّثَ الحَيوانَ والإنسانَ: ذلّـَلَهُ بعض التَّذْلِيل(1).

والديوث ملقَّبٌ بالقنذع: والقنذع والقنذوع كله: الديوث، وهي سريانية ليست بعربية محضة، وقد يقال بالدال المهملة.

وفي حديث وهب: ذلك القنذع هو الديوث الذي لا يغار على أهله.

قال الأزهري: وهذا راجع في المخازي والقبائح(2).

فلو تلاحظ أنَّ كلمة الديوث في اللغة تجمع معاني الذل والانقياد والخزي والقبح، ولا يبعد التعريف اللغوي عن التعريف الاصطلاحي.

الديوث اصطلاحا:

الديوث: أخذ شهرته من تعريفه الشرعي في الإسلام، ويتصور كثيرون أنه يكافئ القواد، وهو ليس كذلك، فالقواد هو من يدير عمل العاهرة سواء كانت قريبة له أم لا، أما الديوث فهو شرعا: "من يرضى الفجور في أهله حتى لو لم يكن هذا الفجور زنا، وقال ابن منظور: الديوث هو الذي لا يغار على أهله(3).

----------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------

 

(1) المعجم الوسيط مادة داث، معجم اللغة العربية المعاصر، جامع المعاني، القاموس المحيط،

(2) لسان العرب 198.

(3) لسان العرب 4/456.

 

فالدَّيوث اختصارا هو: من رضى بفجور أهله، وقد أخطأ البعض في تعريفهم الدياثة حيث قيَّدوها بممارسة الجنس صراحة مع رضائه، وهذا غير صحيح فالديوث هو الراضي بفجور أهله بأي نوع من أنوا الفجور، فقد وصف الشرع المتبرجة بالزانية فقد قال النبي : "أيما امرأةٍ استعطرتْ فمرتْ على قومٍ ليجدوا من ريحِها فهي زانيةٌ"(1).

فها هو النبي يصف المرأة المتعطِّرة قصد جلب اتنباه الرجال بالزنا، ومن المعلوم أنَّ الألفاظ الشرعيَّة تؤخذ على ظاهرها، فلو قلت إنَّها زانية على الحقيقة لصدقت، ولو قلت أنَّها ستحاسب على الزنا يوم القيامة مع أنَّها لم تزنا حقيقة لصدقت، ولو قلت أنَّ من رضا من أهلها بذلك فهو ديوث لصدقت.

وعلى هذا فإن كانت المتعطِّرة زانيَّة فمن باب أولى المتبرجة، ومن باب أولى من عرَّت من جسمها أكثر مما سترت، فلو حق القول على الراضي بتعطُّر أهله والخروج كذلك بأنَّ فيه من الدياثة، فمن باب أولى من رضى بتبرج أهله وعدم الإنكار عليهم، فهذا النوع هو ديوث خالص.

 

وعيد الشارع للديوث:

قد توعد الشارع أهل الدياثة في أكثر من موقع في الكتاب والسنَّة فمن ذلك قوله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَّا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ"[التحريم: 6].

قال الطبري: وقوله: (وَأَهْلِيكُمْ نَارًا) يقول: وعلموا أهليكم من العمل بطاعة الله ما يقون به أنفسهم من النار، وعن عليّ بن أبي طالب رضى الله عنه في قوله: (قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ) قال: علِّموهم، وأدّبوهم(2).

والأولى بالعناية في الأهل هم النساء فهن أكثر عرضة للفتن من الذكور قال النبي : "يا مَعْشَرَ النِّسَاءِ، تَصَدَّقْنَ؛ فإنِّي رَأَيْتُكُنَّ أكْثَرَ أهْلِ النَّارِ. فَقُلْنَ: وبِمَ ذلكَ يا رَسولَ اللَّهِ؟ قَالَ: تُكْثِرْنَ اللَّعْنَ، وتَكْفُرْنَ العَشِيرَ، ما رَأَيْتُ مِن نَاقِصَاتِ عَقْلٍ ودِينٍ أذْهَبَ لِلُبِّ الرَّجُلِ الحَازِمِ مِن إحْدَاكُنَّ"(3).

فلو تلاحظ أنَّ الكلام هنا عن الصَّحابيَّات وهن من خيرة خلق الله تعالى، فما بالك بمن هن دونهن، وبه قال : "كَمَلَ مِنَ الرِّجالِ كَثِيرٌ، ولَمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّساءِ إلَّا مَرْيَمُ بنْتُ عِمْرانَ، وآسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ، وفَضْلُ عائِشَةَ علَى النِّساءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ علَى سائِرِ الطَّعامِ"(4).

وفي روايات أخرى ذكر معهما خديجة وفاطمة، وعلى العموم فقد انتفى الكمال عن المرأة إلَّا عن عدد قليل منهم، وتمَّ الكمال عند كثير من الرجال إلا عن عدد قليل منهم، والكمال المقصود هنا هو كمال الدين، فالواجب على العاقل أنْ يهتمَّ بنسائه بالتأديب كي يقي نفسه وإيَّاهن من النَّار.

فقد قال النبي : "ثلاثةٌ قد حرَّم اللهُ عليهمُ الجنةَ، مُدمنُ الخمرِ، والعاقُّ، والديُّوثُ الذي يُقرُّ في أهلهِ الخبَثَ"(5).

وقال : ثلاثةٌ لا ينظرُ اللَّهُ عزَّ وجلَّ إليهم يومَ القيامةِ؛ العاقُّ لوالِدَيهِ، والمرأةُ المترجِّلةُ، والدَّيُّوثُ، وثلاثةٌ لا يدخُلونَ الجنَّةَ؛ العاقُّ لوالِدَيهِ، والمدمِنُ على الخمرِ، والمنَّانُ بما أعطى"(6).

وقال في ما يرويه عن ربه، قال تعالى: وعزتى لا يسكنها مدمن خمر ولا ديوث قالوا: يا رسول الله وما الديوث؟ قال: من يقر السوء في أهله(7).

-----------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------

(1)رواه النسائي عن أبي موسى الأشعري 5141.

(2) تفسير الطبري.

(3) رواه البخري 1462، ومسلم 80.

(4) رواه البخاري 3769.

(5) أخرجه أحمد في مسنده حسن الإسناد بكثرة الطرق وصحيح المتن.

(6) رواه النسائي عن عبد الله عمر 2562.

(7) رواه الخرائطى في مساوئ الأخلاق عن عبدالله بن الحارث بن نوفل، وعبدالله بن الحارث بن نوفل تابعى ثقة ولد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وروى عنه مرسلاً.

 

 

فهذا كلُّه وعيد للدَّيوث بالخزي والعار في الدنيا وفي الآخرة، حتَّى أنَّ بعض المجتمعات من غير المسلمين كانوا لا يرضون بهذا، فها هي الصين ترفض كل أوجه الدياثة، ففي الثقافة الصينية، ترمز القبعة الخضراء للديوث، فقد كان في السابق لزاماً على أسرة العاهرات ارتداء القبع الخضراء لتمييزهم عن غيرهم، لذا لا زال الصينيون يمتنعون تماماً عن ارتداء القبع التي يوجد بها أي أثر للون الأخضر، حتى عند اشترائهم الأزياء الغربية، فهذا الحال عند الصينيَّين، بل كان أهل الجاهليَّة تملؤهم الغيرة فيدفنون بناتهم في التراب خشية السبي، حتَّى أنزل الله تعالى فيهم بعد الإسلام آياته فقال تعالى: "وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ"[التكوير: 8 – 9]، فقد كانوا يدفنون بناتهم أحياء خشية أن تُسترقَّ بسبب دين أبيها أو تسبى بسبب الحرب، فغيرةً على عرضه كان يدفنها، نعم هذا العمل غاية في البشاعة، وقد جاء الإسلام ومنع هذا الإجرام، ولكن مع ذلك أكَّد الشارع الحنيف وجوب طاعة النساء لبعولهنَّ والبنات لأبائهن، وأكد على غيرة الرجال على أعراضهم فقد قال النبي : "مَنْ قتِلَ دُونَ مالِهِ فهوَ شَهيدٌ، ومَنْ قُتِلَ دُونَ دِينِهِ فهوَ شَهيدٌ، ومَنْ قُتِلَ دُونَ دَمِهِ فهوَ شَهيدٌ، ومَنْ قُتِلَ دُونَ أهلِهِ فهوَ شَهيدٌ"(1).

وهذا تشجيع على فضيلة الغيرة بأن أهداه الله تعالى فضل الشهادة إن مات دون عرضه.

وقد أمر الله تعالى بتأديب النساء فقال تعالى: "وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ ۖ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا"[النساء: 34]، فقد أمر الله المسلم أن يعض زوجته فإن أبت يهجرها في المضجع، فإن أبت يضربها، وكل هذا لمجرَّد النشوز وهو الاستعلاء، قال الطبري في شرح الآية: استعلاءهن على أزواجهن، وارتفاعهن عن فرشهم بالمعصية منهن، والخلاف عليهم فيما لزمهن طاعتهم فيه، بغضا منهن وإعراضا عنهم، وأصل النشوز الارتفاع، ومنه قيل للمكان المرتفع من الأرض نشز ونشاز(2).

------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------

(1) صحيح رواه الترمذي عن سعيد بن زيد 1421.

(2) تفسير الطبري.

 

وقال النبي : " فإنْ فعَلْنَ ذلك فاضرِبوهنَّ ضربًا غيرَ مُبَرِّحٍ، ولهنَّ عليكم رِزقُهنَّ وكِسوتُهنَّ بالمعروفِ"(1).

فكل ما سبق ذكره هو لمجرَّد النشوز ألا وهو استعلاء المرأة على زوجها فما بال أقوام تخرج نساؤهم أنصاف عاريات ولا يحرك ساكنا ولا يغار،

ورب الأرباب سبحانه وتعالى يغار، وخير خلقه ، وخير الخلق بعد الأنبياء والرسل صحابة الرسول يغارون، والمؤمنون الصادقون يغارون.

 

غيرة الله تعالى:

قال رسول الله : "لا أحد أغير من الله فلذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن"(2).

وقال : إن الله يغار، وإن المؤمن يغار، وَغَيْرَةُ الله أن يأتي المؤمن ما حرم عليه(3).

وقال : " المؤمن يغار والله أشد غَيْرًا"(4).

وقال : يا أمة محمد، ما أحد أغير من الله أن يرى عبده أو أمته تزني(5).

 

غيرة رسول الله :

فقد كان النبيُّ مع رحمته ورقته وطيبته أشد خلق الله غيرة على نسائه، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: دخل علي رسول الله وعندي رجل قاعد، فاشتدَّ ذلك عليه، ورأيت الغضب في وجهه، قالت: فقلت: يا رسول الله، إنَّه أخي من الرضاعة، قالت: فقال: انظرن إخوتكن من الرضاعة، فإنما الرضاعة من المجاعة(6).

--------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------

(1) صحيح رواه تالطبري في تفسيره.

(2) رواه البخاري (4/ 1699)، ومسلم 4/ 2113.

(3) رواه مسلم 4/ 2114.

(4) رواه مسلم 4/ 2115.

(5) رواه البخاري (5/ 2002)، ومسلم 2/ 618.

(6) رواه البخاري ( 2647) ومسلم 1455.

 

وقال المغيرة بن شعبة: قالَ سَعْدُ بنُ عُبَادَةَ: لو رَأَيْتُ رَجُلًا مع امْرَأَتي لَضَرَبْتُهُ بالسَّيْفِ غَيْرُ مُصْفِحٍ عنْه، فَبَلَغَ ذلكَ رَسولَ اللهِ ، فَقالَ: أَتَعْجَبُونَ مِن غَيْرَةِ سَعْدٍ، فَوَاللَّهِ لأَنَا أَغْيَرُ منه، وَاللَّهُ أَغْيَرُ مِنِّي(1).

غيرة الصحابة:

عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال النبي : رأيتني دخلت الجنة فإذا أنا بالرٌّمَيصَاء امرأة أبي طلحة، وسمعت خَشَفَةً، (أي: حركة) فقلت: من هذا؟ فقال: هذا بلال، ورأيت قصرًا بفنائه جارية، فقلت: لمن هذا؟ فقالوا: لعمر، فأردت أن أدخله فأنظر إليه، فذكرت غيرتك، فولّيت مُدبِرًا، فبكى عمر وقال: بأبي وأمي يا رسول الله، أعليك أغار؟! أي: أعليها أغار منك؟(2).

وعن المغيرة قال سعد بن عبادة: لو رأيت رجلاً مع امرأتي لضربته بالسيف غير مصفح، فبلغ ذلك رسول الله فقال: تعجبون من غيرة سعد! والله لأنا أغير منه، والله أغير مني، ومن أجل غيرة الله حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن(3).

وفي رواية: قالوا: يا رسول الله، لا تلمه؛ فإنه رجل غيور، والله ما تزوج امرأة قط إلا بكراً، وما طلق امرأة له قط، فاجترأ رجل منا على أن يتزوجها من شدة غيرته(4).

فأخبر صلى الله عليه وسلم بأن سعداً غيور، وأنه أغير منه، وأن الله أغير منه صلى الله عليه وسلم، وأنه من أجل ذلك حرم الفواحش، فهذا تفسير لمعنى غيرة الله تعالى أي: أنها منعه سبحانه وتعالى الناس من الفواحش(5).

-------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------

(1) رواه مسلم 1499.

(2) متفق عليه.

(3) رواه البخاري (6/ 2698)، ومسلم 2/ 1136.

(4) مسند أحمد 4/ 33.

(5) مسند أحمد 4/ 33.

 

غيرة المؤمنين:

إنَّ الإيمان يحمل صاحبه على أن يكون غيوراً لا يرضى بالسوء في دينه ولا في حرماته؛ وذلك أن أصل الدين الغيرة، ومن لا غيرة له لا دين له، فالغيرة تحمي القلب، فتحمي له الجوارح، فتدفع السوء والفواحش، وعدم الغيرة تميت القلب فتموت الجوارح، فلا يبقى عندها دفع البتة، ومثل الغيرة في القلب مثل القوة التي تدفع المرض وتقاومه، فإذا ذهبت القوة وجد الداء المحل قابلاً ولم يجد دافعًا فتمكن فكان الهلاك، ومثلها مثل صياصي الجاموس (أي: قرونها) التي تدفع بها عن نفسه وعن ولده، فإذا تكسرت طمع فيها عدوه(1).

فالغيور قد وافق ربه سبحانه في صفة من صفاته، ومن وافق الله في صفة من صفاته قادته تلك الصفة إليه بزمامه، وأدخلته على ربه، وأدنته منه، وقربته من رحمته، وصيرته محبوباً له؛ فإنه سبحانه رحيم يحب الرحماء، كريم يحب الكرماء، عليم يحب العلماء، قوي يحب المؤمن القوي وهو أحب إليه من المؤمن الضعيف، حيي يحب أهل الحياء، جميل يحب أهل الجمال، وتر يحب أهل الوتر(2)، وبه كذلك فإنَّ الله تعالى غيور يحبُّ كل غيور.

ويذكر أن رجلاً يقال له: الأشجعي بلغ من فرط غيرته أنه منع زوجته الحج خشية رؤيتها الناس، وهذا وإن كان غير مقبول، لكنه يدل على مبلغ غيرته على زوجته. فإنه لما حج بامرأته نظر إلى الناس يوم التروية فهاله كثرتهم فقال: إن رجلاً يُدخل امرأته وسط هؤلاء لمجنون! وضرب وجه راحلته وعاد ولم يحج وقال:

وليس بحرٍّ من يوسِّط زوجـــةً * له بين أهل الموسم المتقصـــدِ

وفيهم رجالٌ كالبدور وجوهُهم * فمِن بين ذي طرفٍ كثيرٍ وأمردِ(3).

-------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------

(1) الجواب الكافي ص: 45.

(2) الجواب الكافي ص 44.

(3) محاضرات الأدباء 1/ 426.

 

وذكر الإمام مالك في موطئه قصة فتى من الأنصار كان حديث عهد بعرس، فخرج مع النبي إلى الخندق، ثم استأذن رسول الله أن يرجع إلى أهله، فلما رجع وجد زوجته على باب منزله، فأهوى إليها بالرمح ليطعنها وأدركته غيرة - يعني - حينما رآها خارج البيت على الباب- فقالت: لا تعجل حتى تدخل وتنظر ما في بيتك، فدخل فإذا هو بحية منطوية على فراشه(1).

قال بعض أهل العلم: ولعمري إن الغيرة لتوجدُ في الحيوان بالخلقة، فكيف وقد أكدتها عندنا الشريعة؟! وما بعد هذا مصاب(2).

هل الديوث مؤمن:

إنَّ الديوث صاحب منكر عظيم وجرم كبير، وجرمه هو إقراره للفاحشة في أهله، والنبي بين أن هذا الصنف لا يدخل الجنة، ولا ينظر الله إليه، فيما أخرج النسائي عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله : "ثلاثة لا ينظر الله عز وجل إليهم يوم القيامة: العاق لوالديه، والمرأة المترجلة، والديوث" وأخرج أحمد عن ابن عمر أيضاً بلفظ: أن رسول الله قال: "ثلاثة قد حرم الله تبارك وتعالى عليهم الجنة: مدمن الخمر، والعاق، والديوث الذي يقر في أهله الخبث" وهذه الأحاديث تحمل على معنيين:

الأول: أنه لا يدخل الجنة مطلقاً، وذلك فيمن استحل ذلك، لأن استحلاله للفاحشة يخرجه من الإسلام، وبذلك يحرم عليه دخول الجنة.

الثاني: أن الجنة يحرم عليه دخولها ابتداء، فقد يدخل النار فيجازى على ذنوبه، ثم بفضل الله يدخل الجنة، أو قد يغفر الله له فلا يدخل النار، لكن لا يكون من السابقين في دخول الجنان. وهذا الوعيد في حق من مات من المسلمين قبل أن يتوب من هذا المنكر العظيم.

وعلى هذا فمن استحلَّ الدياثة، فهو كافر قولا واحد لاستحلاله ما حرَّم الله تعالى، ومن لم يستحل الدياثة فهو مذنب بكبير الذنوب فإن مات على تلك الحال نرى أنَّه موعود بالعذاب لامحالة ثمَّ إن شاء الله تداركه برحمته لأنَّه من أهل التوحيد.

كيفيَّة استحلال الدياثة:

الكثير من الرجال هم في غيابات الدياثة ولا كنَّهم لا يعلمون ذلك، ومنهم من يظنُّ أنَّه فعله مكروه لا أكثر، مثل ؤلاء الذين يشترون لبناتهم ثيابا لا تحمل من الثياب إلَّا الاسم، وهو يظنُّ أنَّه مواكب للعصر، أو أنَّ كل النساء في العصر الحاضر يلبسن مثل هذا اللباس فلا بأس بذلك، ومنهم من يرسل بناته بحجَّة الدراسة إلا بلد غريب لا رقيب عليها ولا حسيب، فعلى هؤلاء أنْ يعلموا؛ أنَّ مجرَّد تعطُّر المرأة لجذب الانتباه يجعلها تتصف بالزنا لقوله : "أيَّمَا امرأةً استعطرتْ فمرَّت علَى قومٍ ليجدُوا منْ ريحهَا فهيَ زانيةٌ"(3)، فإن كان هذا الخطاب على مجرَّد العطر فما بالك بحال النساء اليوم؟ وهل يرضى رجل أن تتصف زوجته أو ابنته أو أمه بالزنا؟

كما أنَّ علَّة الحديث هو جذب انتباه الرجال، والرجل مأمور بالتعطر على وجه الندب لقوله : "حبِّب إليَّ منْ دنياكمُ النساءُ والطيبُ، وجعلتْ قرَّةَ عينِي في الصَّلاة"(4)، والمعنى من هذا أنَّ المرأة مع اعتياد الرجال على العطور يمنع عليها فعله لجلب انتباههم، فيفهم من هذا أنَّ الغاية ليست في العطر خاصَّة بل في جلب انتباه الرجال بأي شكل كان، وإن كان أدناه هو العطر، فإن كان عقابها على العطر على هذا الحال فكيف بما هو أكثر من التعطُّر، وإن كان الساكت على تعطُّر أهله وخروجهنَّ متعطرات يوصف بالديَّاثة، لأنَّ المتعطرة وصفت بالزنا، والبعل أو الأب أو الأخ المقرُّ لزنا أهله ديوث، وقد وعد بحرمانه من الجنَّة، فكيف الحال بمن هو أسوء منه حالا، كالذي لا يرفع بالغيرة رأسا، ولا يسأل أهله عن شيء، والواجب عليه أن يسأل أهله عن كل شيء ولو كانت من أولياء الله تعالى لأنَّ سؤالها والغيرة عليها عبادة، هذا لأن المسلم مأمور به، فهاهو زكريا يدخل على مريم العذراء وهي من سيدات النساء في الدنيا والآخرة، فيسألها عن الرزق من أين لها، قال تعالى: " كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا ۖ قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَٰذَا"[آل عمران: 37]، فهاهي العذراء الشريفة أم نبيٍّ ورسول من أولي العزم تُسأل، والسائل نبي كريم، مع علمه أنَّها طاهرة ظاهرا وباطنا، ولكنَّه يسأل لتعلم أنَّها مسؤولة أمام الله تعالى وأمام من كفلها، فإن كان هذا الحال مع مريم البتول، فما بالنا تركنا نساءنا بلا رقيب ولا حسيب، أما عملت أنَّ المرأة كالطفل الصغير، فإن تركت الصَّغير يلعب أمام النار ليحرقنَّ نفسه، وإن تركت المرأة لحالها لتحرقنَّ نفسها بنار جهنَّم، فإن رضيت بفعلها كنت شريكا لها، وصدق من قال: أنْ للمرأة ثلاثة أبواب في الدنيا لا رابع لها، فإن خرجت تخرج لباب واحد في الآخرة على حسب صبرها على أبواب الدنيا الثلاثة؛ فأمَّا الباب الأوَّل: باب بيت أبيه فلا تتعدَّاه خارجا، والثاني: فإن خرجت فتخرج لباب بيت بعلها فلا تتعداه خارجا، الثالث: فإن خرجت فتخرج لباب المقبرة، فلا تتعداه خارجا، وأمَّا الباب الذي في الآخرة، فأمَّا باب الجنَّة وإمَّا باب النَّار، فإن عصت وأبت في الدُّنيا، فتخرج من باب المقبرة إلى باب جهنَّم لا تعدَّاه خارجا إلَّا أن يشاء الله تعالى، وإن صبرت واحتسب فتخرج من باب المقبرة إلى باب الجنَّة لا تتعداه خارجا، فعلى العاقل أن يقي نفسه وأهله من عذاب الله تعالى، بأن يمنع أهله ويسأل عن كل كبيرة وصغيرة ويمنع كل أسباب الفسق والفجور، من لباس ضيق وتعطر، وأن يُشغلهم بالعلم النافع فإنه نور يقي الإنسان مصائب الدنيا والآخرة، وليعلم أنَّ الساكت على هذا هو مقر على الفعل والمقر شريك إن كان بيده أن يمنع.

 

 

 

 

--------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------

 

(1) موطأ مالك 5/ 1423.

(2) رسائل ابن حزم 1/ 279.

(3) رواه النسائي عن أبي موسى الأشعري.

(4) رواه: أحمد والنسائي والبيهقي والطبراني وأبو يعلى وعبد الرزاق والحاكم وغيرهم وهو صحيح.

 

أنواع الديوث:

1 – الديوث الخالص: وهو الذي يقرُّ على أهله فعل الفواحش، فهذا مستحلٌّ للدياثة حقيقة أو حكما، وحكمه الخروج من الملَّة.

2 – الديوث المستهتر: وهو الذي لا يهتم بما يدور حوله ولا يسأل أهله عن شيء، وحاله حال سابقه.

3 – الديوث الجاهل: وهو الذي لا يعلم أنَّ هذا الفعل كبيرة، فهو أيضا ديوث ولا ينفعه جهله، والسبب أنَّ الشهامة والرجولة والغيرة جبلَّة فطريَّة خلقها الله تعالى في قلوب الرجال، حالها حال التوحيد المفطور في قلوب الناس كافَّة، ولكنَّهم انحرفوا "فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ" "فَنَسُوا حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ" فلا ينفعهم جهلهم، لأنَّ العلم حاصل والحق بيِّنٌ بيان الشمس.

4 – المغلوب على أمره: وهذا فيه كلام:

إن كان المغلوب على أمره بأن خاف من تهديد أهله بالسجن إن منعهنَّ من هذا اللباس وأمرهم بالمعروف ونهاهن عن المنكر، فيجب عليه استعمال القواعد التي نبهنا عليها الله تعالى حيث قال: "فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ ۖ"[النساء: 34]، فيبدأ بالموعضة، فإن كانت المسيئة زوجته فليهجرها في المضجع، فإن أبت الرجوع فليضربها ضربا غير مبرح، فإن أبت فلا يجب عليه أن يرضى بالدياثة، ويجب عليه الطلاق لقوله تعالى: " فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ"[النساء: 24]، قال الطبري: القول في تأويل قوله : "مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ" يعني بقوله: محصنات، عفيفات، غير مسافحات، غير مزانيات ولا متخذات أخدان، يقول: ولا متخذات أصدقاء على السفاح.

وقال أيضا: و المتخذات الأخدان: اللواتي قد حبسن أنفسَهن على الخليل والصديق، للفجور بها سرًّا دون الإعلان بذلك(1).

----------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------

(1) تفسير الطبري.

فالمسافحة: هي المعلنة بالفجور، والمتخذة: هي التي اتخذت خليلا واحدا تفسق معه سرا، ولو تلاحظ أنَّ المسافحة هي المجاهرة وهي أشد من المتَّخذة، فلو نظرت إلى أحوال البنات أشباه العاريات المتعطرات لإغواء الرجال، فترى أنَّهن من جنس المسافحات، فهذا النوع من النساء لا يجوز الزواج منهن ابتداء، فإن حصل وتزَّوج بها بجهل ثمَّ فتح الله عليه بتوبة تنجيه من عذاب الله تعالى، فليعضها كما قلنا سابقا، فإن أبت فليهجرها في الفراش وهجره لها واجب، فإن أبت فليضربها، فإن أبت فلا يحلُّ له العيش معها ولا وطأها، بل الطلاق، وأمَّا بالنِّسبة إلى ضربها إن علم أنَّه لن يفيد ابتداء وأنَّ ضربه لها سيقوده إلى التَّهلكة فليحفظ نفسه وليطلقها بعد الوعظ والإرشاد والتأني في ذلك ثم الهجر ثمَّ ينتقل مباشرة للطلاق، فإنٍ استُضعف في الطلاق بأن تفرض عليه غرامة لا يقدر عليها فينجر عنها السحن، فإمَّا أن يصبر على ذلك، أو ليتبرَّأ، وهو الحال نفسه بالنِّسبة للبنت، إن أبت النصح فلا تيأس أعد الكرَّة سرا وجهرا، وحببها في تقوى الله تعالى، واحملها للمساجد وعرفها بالصالحات وحاول أقصى جهدك في ذلك، فإن أبت فالبراءة، ولا ترضى لنفسك الدياثة، ولا ترضى لنفسك الخزي ولا تبع رجولتك ولا مروءتك بأي ثمن.

 

الفرق بين الديوث والشَّاذ:

باختصار الفرق بين الديوث والشاذ فرق شكليٌّ، فهما متقاربان فكثير من الأشياء وكلاهما في خندق واحد وهو الشذوذ الجنسي، فكلاهما مخالف للفطرة السليمة، فكل شاذ ديوث فلا يغار على أهله وكيف يغار على أهله وقد باع نفسه، ويمكن أن يكون الشاذ غير ديوث بأن يكون شاذا في نفسه غيورا على أخواته البنات، وهذا قليل.

وكل ديوث يحمل حكم الشاذ لا حقيقته، فكلاهما مخالف للفطرِ السليمة، فمن رضا بفجور أهله، ليس غريبا بأن يرضاه لنفسه، وكل ديوث هو فاجر بطبيعته، فالمعنى أنَّ الشذوذ ليس عليه ببعيد، فمالذي يمنعه عنه؟

وعلى هذا فليعلم من يتهاون في شؤون أهله أنَّه لا فرق كبير بينه وبين الشاذ فليحذر، وليعد إلى الله تعالى عن عجل.

هل للديوث من توبة:

نقول له: يا طالب التوبة أبشر فربك الغفور ذو الرحمة، وهو التوَّاب الرَّحيم، فقد قال وقوله الحق: "وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَىٰ"[طه: 82]، فاشترط سبحانه شروطا وهي: التوبة أولا، وتكون: بالإقلاع عن الفعل، والندم عليه، والإصلاح ما استطعت، وقبل كل شيء النيَّة الخالصة، ثم الإيمان وهو أن يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، فإيمانه بالله تعالى، بالإنقياد إلى أوامره والإنتهاء عند نواهيه وطاعته سبحانه ظاهرا وباطنا، وإيمانه بملائكته أن يعتقد أنَّهم رسل الله تعالى وكل منهم مكلَّف بمهام، وإيمانه بكتبه أن يصدق بكل ما جاء من الكتب وأن يعلم أن القرآن هو المهيمن عما سبق من الكتب، وأن يأتمر بأوامر القرآن ويصدق أخباره، وإيمانه برسله بأن يؤمن بكل نبيِّ ولا يفرَّق بين أحد منهم وأن يعلم أن سيدَّهم وخاتمهم هو محمد بن عبد الله الهاشمي القرشي وأنَّ شريعته ناسخة لكل شرائع من قبله، وأن يستسلم لحكم رسول الله في كل أحواله، وإيمانه باليوم الآخر أن يعتقد بأنه مردود إلى الله يوم القيامة بعد الموت وأنَّ يؤمن بكل ما أخبر به الله تعالى ونبيُّه عن أخبار ما بعد الموت ويصدَّق بها تصديقا نافيا للشك، وإيمانه بالقدر خيره وشره أن يعلم أنَّ كل شيء بأمر الله تعالى، وأنَّ ما أصابه ما كان ليخطئه، وأنَّ ما أخطأه ما كان ليصيبه، وأنَّ الحكم والأمر لله أوَّلا وآخرا، وأنَّه لو اجتمعت الإنس والجن على أن ينفعوه بشيء ما نفعوه إلَّا بشيء قد كتبه الله له، وأنهم لو اجتمعوا على أن يضروه بشيء ما استطاعوا إلا بشيء قد كتبه الله، ويعلم أنَّ قدر الله تعالى مكتوب منذ الأزل فليرح باله فقد رُفعت الأقلام وجفَّت الصحف.

وهذه الشروط سهلة ففيها حلاوة القرب، ونور التعرف إلى الله تعالى، والاشتياق إلى الزيادة من العلم والقرب.

ويُبشر الله تعالى التائبين ويقول: "قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ"[الزمر: 53]، ففي هذه الآية لم يستثى الله تعالى أحدا، فكل حي تاب من ذنبه يتوب الله عليه ولو كان شركا بالله، والتائب من الذنب كما لا ذنب له، قال رسول الله : "التَّائبُ من الذَّنبِ كمن لا ذنبَ له"(1).

 

عذاب الكاسيات العاريات:

قال رسول الله : "صِنْفانِ مِن أهْلِ النَّارِ لَمْ أرَهُما، قَوْمٌ معهُمْ سِياطٌ كَأَذْنابِ البَقَرِ يَضْرِبُونَ بها النَّاسَ، ونِساءٌ كاسِياتٌ عارِياتٌ مُمِيلاتٌ مائِلاتٌ، رُؤُوسُهُنَّ كَأَسْنِمَةِ البُخْتِ المائِلَةِ، لا يَدْخُلْنَ الجَنَّةَ، ولا يَجِدْنَ رِيحَها، وإنَّ رِيحَها لَيُوجَدُ مِن مَسِيرَةِ كَذا وكَذا"(2).

في هذا الحديثِ يُبيِّنُ النَّبِيُّ أنَّ صِنفَينِ، أي: نَوعين مِن أهْلِ النَّارِ لم يَرَهُما بعدُ، أي: في عَصْرِه، بل سَيأتيانِ بَعدَه:

الصِّنف الأوَّل: قَومٌ معهم "سِياطٌ" جمْعُ سَوطٍ كَأذنابِ البقرِ، يعني: أنَّها سِياطٌ طويلةٌ وله رِيشةٌ يَضرِبون بها النَّاسَ، أي: بِغيرِ حقٍّ وهؤلاء هُمُ الشُّرَطُ الَّذينَ يَضرِبونَ النَّاسَ بِغيرِ حقٍّ.

والصِّنف الثاني وهو مرادنا: نِساءٌ كاسياتٌ، أي: يَسترْنَ بعضَ بَدنِهنَّ ويَكشفْنَ بَعضَه؛ إظهارًا لجمالِهنَّ وإبرازًا لِكمالِهنَّ، وقيل: يَلبسْنَ ثَوبًا رقيقًا يَصفُ بَدنَهنَّ وإنْ كنَّ كاسياتٍ لِلثِّيابِ عارياتٍ في الحقيقةِ، أو كاسياتٍ بِالحُلَى وَالحُلِيِّ، عارياتٍ مِن لباسِ التَّقوى "مُمِيلاتٌ"، أي: مُمِيلاتٌ قلوبَ الرِّجالِ إليهن، أوِ الْمَقانِعَ عَن رؤوسِهِنَّ؛ لِتظْهَرَ وُجوهُهنَّ، وقيل: مُميلاتٌ بِأكتافِهنَّ، وقيل: يُمِلْنَ غيرَهنَّ إلى فِعلِهنَّ المذمومِ، "مَائلاتٌ"، أي: إلى الرِّجالِ بِقُلوبِهنَّ أو بِقوالبِهنَّ، أو مُتبختراتٌ في مَشْيِهنَّ، أو زائغاتٌ عَنِ العَفافِ، أو مائلاتٌ إلى الفُجورِ والهوى، وقيلَ: مائلاتٌ يَمْتَشطْنَ مِشطَةَ الْمَيلاءِ، وقيلَ: مِشْطَةَ البَغايا، مُمِيلاتٌ يَمشطْنَ غيرَهنَّ بِتلكَ الْمِشطَةِ "رؤوسُهنَّ كَأسنمةِ البُخْتِ"، والبُخِتِيُّ مِنَ الجِمالِ، والأُنثى بُختِيَّةٌ جمْعُ بُخْتٍ وَبَخاتيٍّ، وهي جِمالٌ طِوالُ الأعناقِ، واللَّفظةُ مُعرَّبَةٌ، أي: يُعظِّمْنَها ويُكبِّرنَها بِلفِّ عِصابةٍ ونحوِها، وقيلَ: يَطمَحْنَ إلى الرِّجالِ لا يَغضُضنْ مِن أبصارهِنَّ، ولا يُنكِّسْنَ رؤوسَهنَّ، "المائلةِ" صِفةٌ لِلأسْنِمَةِ، وهي جمْعُ السَّنامِ، والمائلةُ مِنَ الْمَيلِ؛ لأنَّ أعْلَى السَّنامِ يَميلُ لِكثرةِ شحْمِه، لا يَدخُلْنَ الجنَّةَ ولا يَجدْنَ رِيحَها، وإنَّ رِيحَها لَتُوجدُ مِن مَسيرةِ كذا وكذا، أي: مئةِ عامٍ مثلًا، ومعناه: أنَّهنَّ لا يَدخلْنَها ولا يجدْنَ رِيحَها حينَ ما يَدخُلُها ويَجدُ رِيحَها العَفائفُ الْمُتورِّعاتُ، لا أنَّهنَّ لا يَدخُلْنَ أبدًا.

فهذا النوع من النساء لهن أضعاف مضاعفة من العذاب، الأوَّل: أنَّها فاجرة، الثاني: أنَّها فعلت فعل الشيطان بإغراء الرجال، الثالث: أنها كانت سببا في جعل الرجال من أهلها دُيَّثا، فلا يحسبنَّ هؤلاء أنَّهن بمفازة من العذاب والله يقول: " فَلَا تَحْسَبَنَّهُم بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ ۖ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ"[آل عمران: 188]، ولن ينفعها يوم القيامة شيء فقد نصح الله تعالى فأكثر النصح وأمرهنَّ ووعدهنَّ وتوعدهنَّ فقال تعالى: "وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا ۖ وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ ۖ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَىٰ عَوْرَاتِ النِّسَاءِ ۖ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ ۚ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ"[النور: 31]، قال السعدي: لما أمر المؤمنين بغض الأبصار وحفظ الفروج، أمر المؤمنات بذلك، فقال: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} عن النظر إلى العورات والرجال، بشهوة ونحو ذلك من النظر الممنوع، {وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} من التمكين من جماعها، أو مسها، أو النظر المحرم إليها، {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} كالثياب الجميلة والحلي، وجميع البدن كله من الزينة، ولما كانت الثياب الظاهرة، لا بد لها منها، قال: {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} أي: الثياب الظاهرة، التي جرت العادة بلبسها إذا لم يكن في ذلك ما يدعو إلى الفتنة بها، {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} وهذا لكمال الاستتار، ويدل ذلك على أن الزينة التي يحرم إبداؤها، يدخل فيها جميع البدن، كما ذكرنا، ثم كرر النهي عن إبداء زينتهن، ليستثني منه قوله: {إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ} أي: أزواجهن {أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ} يشمل الأب بنفسه، والجد وإن علا، {أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن} ويدخل فيه الأبناء وأبناء البعولة مهما نزلوا {أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ} أشقاء، أو لأب، أو لأم. {أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ} أي: يجوز للنساء أن ينظر بعضهن إلى بعض مطلقا، (في الحدود الشرعيَّة).

(أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ) فيجوز للمملوك إذا كان كله للأنثى، أن ينظر لسيدته، ما دامت مالكة له كله، فإن زال الملك أو بعضه، لم يجز النظر (إن أمنت عليه سيِّدته من الفتنة وإلَّا فلا يجوز فالعلَّة هي الفتنة سواء كانت لحر أو عبد) {أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ} أي: أو الذين يتبعونكم، ويتعلقون بكم، من الرجال الذين لا إربة لهم في هذه الشهوة، كالمعتوه الذي لا يدري ما هنالك، وكالعنين الذي لم يبق له شهوة، لا في فرجه، ولا في قلبه، فإن هذا لا محذور من نظره، (في حدود ما شرع الله).

(أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ) أي: الأطفال الذين دون التمييز، فإنه يجوز نظرهم للنساء الأجانب، وعلل تعالى ذلك، بأنهم لم يظهروا على عورات النساء، أي: ليس لهم علم بذلك، ولا وجدت فيهم الشهوة بعد ودل هذا، أن المميز تستتر منه المرأة، لأنه يظهر على عورات النساء.

(وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ) أي: لا يضربن الأرض بأرجلهن، ليصوت ما عليهن من حلي، كخلاخل وغيرها، فتعلم زينتها بسببه، فيكون وسيلة إلى الفتنة.

ويؤخذ من هذا ونحوه، قاعدة سد الوسائل، وأن الأمر إذا كان مباحا، ولكنه يفضي إلى محرم، أو يخاف من وقوعه، فإنه يمنع منه، فالضرب بالرجل في الأرض، الأصل أنه مباح، ولكن لما كان وسيلة لعلم الزينة، منع منه.

 

ولما أمر تعالى بهذه الأوامر الحسنة، ووصى بالوصايا المستحسنة، وكان لا بد من وقوع تقصير من المؤمن بذلك، أمر الله تعالى بالتوبة، فقال: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ} لأن المؤمن يدعوه إيمانه إلى التوبة ثم علق على ذلك الفلاح، فقال: {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} فلا سبيل إلى الفلاح إلا بالتوبة، وهي الرجوع مما يكرهه الله، ظاهرا وباطنا، إلى: ما يحبه ظاهرا وباطنا، ودل هذا، أن كل مؤمن محتاج إلى التوبة، لأن الله خاطب المؤمنين جميعا، وفيه الحث على الإخلاص بالتوبة في قوله: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّه} أي: لا لمقصد غير وجهه، من سلامة من آفات الدنيا، أو رياء وسمعة، أو نحو ذلك من المقاصد الفاسدة(3).

فنسأل الله سبحانه وتعالى التوبة لنا ولجميع المسلمين، وأن يهدي نساءنا وبناتنا إلى صراطه المستقيم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم والحمد لله رب العالمين.

 

 

 

 

 

----------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------

(1) أخرجه ابن ماجة (4250 )، والطبراني في ((المعجم الكبير )) (10/ 150) (10281 والقضاعي في ((مسند الشهاب)) 108.

(2) رواه مسلم 2128.

(3) تفسير السعدي.

 

 

كتبه الدكتور أبو فاطمة عصام الدين

بعد صلاة العشاء من ليلة الثلاثاء 21 صفر 1443، وانتهى منه في ليلته مع صلاة الفجر.