الخميس 02 مايو 2024
20°اسطنبول
27°أنقرة
31°غازي عنتاب
26°انطاكيا
29°مرسين
20° اسطنبول
أنقرة27°
غازي عنتاب31°
انطاكيا26°
مرسين29°
34.58 ليرة تركية / يورو
40.44 ليرة تركية / جنيه إسترليني
8.87 ليرة تركية / ريال قطري
8.61 ليرة تركية / الريال السعودي
32.28 ليرة تركية / دولار أمريكي
يورو 34.58
جنيه إسترليني 40.44
ريال قطري 8.87
الريال السعودي 8.61
دولار أمريكي 32.28
...

في بستان إقبال "2"

13 ديسمبر 2019، 12:14 م

دونَ عصري كلُّ سرٍّ قد خَفِي.... ما بهذا السّوقِ يُشرى يوسُفي

وككلّ الذين يحبون الجمال ذهبت للقاء يوسفه.

ومن أمام قلعة دمشق ومن قرب النّصب التذكاري للقائد الفاتح صلاح الدين الأيوبي رضي الله عنه، مشيت في الطريق الذي يوازي القلعة من الشّمال وينتهي بالمدينة القديمة، ثمّ يقتربُ من جامع بني أميّة وما عليك إلا أن تنـزوي إلى اليسار قليلاً لتكون أمام دار الكتب الظاهريّة التي بناها الملك الظاهر رحمه الله.

هنا وتحت شجرة الصنوبر العالية وعلى مقربةٍ من بركة الماء التي تتوسّط الدّار وبتعبير أهل دمشق (البحرة) كان يجلسُ أمين المكتبة، أتيت إليه وطلبت منه كتاباً _ أيّ كتابٍ _ لمحمد إقبال رحمه الله.

( الأسرارُ والرّموز ) كان أوّل كتابٍ لمحمد إقبال تكتحلُ به عيني.

وكان الكتاب يضمّ منظومتين وهما: أسرارُ الذّات ونفيُ الذّات. ولقد نظمهما محمد إقبال رحمه الله باللّغة الفارسيّة وترجمهما إلى العربيّة الدكتور عبدالوهّاب عزّام رحمه الله والذي كان سفيراً لجمهورية مصر العربيّة في باكستان.

وفي الطابق العلوي للمكتبة حيث قاعة المطالعة بدأت الصّلةُ بين معلّمٍ عظيمٍ وتلميذٍ هو أنا.

ومن العسير عليّ أن أشرح لهفتي حينها لأن أقرأ لهذا الإنسان الفريد وكأنّني أنا المعنيُّ بقولِ إقبال في كتابهِ هذا:

إنّ في قلبكَ معشوقاً ثوى .... أقبِلنْ أُنبئكَ عن هذا الجوى

وقد أقبلت والقلب ينبضُ حبّاً والروح تفيضُ شوقاً ثمّ استهلّت العين بالدموع عند أوّل بسم الله الرحمن الرحيم. تماماً ومن أمام النافذة الكبيرة المطلّة على فناء هذه الدّار، والذي تغسله حبّاتُ المطرِ المتساقطةُ حينها، ولكن بعد أن تمرّ بأوراق الصنوبر الخضراء وكأنها تستأذن بالدّخول، وماءُ البحرة الصّافي يعلنُ فرحه بالضّيف فيحرّكه الطّرب.

في هذه الأثناء ارتفع أذانُ العصر من الجامع الأموي وقد صدحتْ به رابطة المنشدين بدمشق وشدتْ به مئذنةُ العروس والتي تكاد من قربها وكأنّها تطلُّ على دار الكتب مسلّمةً على كتّابها وقرّائها.

ياالله .... ما أبدعَ ريشة المولى وهي ترسم تلك اللّحظات.

قلتُ في نفسي: لو أنّ الجمالَ اختُصرَ في زمانٍ لما عدا تلك اللّحظة. ولو أنّه اختُصرَ في مكانٍ لما عدا دارَ الكتب الظاهريّة. حينها كنتُ أقرأ:

ليسَ في أعوادِ غابي سَقَطٌ .... هي للمنبر أو أعوادُ صلب

وهذا البيت للشّاعر الفارسي نظيري النيسابوري وقد افتتح به محمد إقبال ديوانه ( الأسرارُ و الرّموز ).

محمّد إقبال ليس كأيّ شاعر تنتهي نشوته ببيت القصيد، أو يعلنُ تعليقَ مهمّته عند اكتمال القصيدة، ولكنّ فلسفته كانت أبعد مدى من كلّ هذا.

كان يثبت ذاته المؤمنة في كلِّ نادٍ للفكر، وكانت ثقافته تنطلق من نفسه القائمة بأمر الله لتختارَ مكانها في كلّ محفل.

وكان يرى أنّ على المسلم أن يعرّفَ العالمَ بهويّته وأن يبصّر الناس بما لديهِ من إرثٍ عظيم وبما يحمله بين جنبيه من سموٍّ روحيٍ و حقيقةٍ خالدةٍ ألا وهي حقيقةُ الإسلام. فكان يقول:

( إنّ مقصد حياة الإنسان ، أنْ يُفني نفسه في الحياة المطلقة كما تفنى القطرةُ في البحر. ولكنّ هدف الإنسان الدينيّ والأخلاقيّ: إثباتُ ذاته لا نفيها، وعلى قدرِ تحقيق انفرادهِ أو وحدته ، يقربُ من هذا الهدف ).

ولن تكتب الحياةُ الكريمةُ للمسلم في هذه الحياة _ كما يرى إقبال _ إلا إذا صدرَ إلى العالم من مشكاة الحق واليقين، ولن يصلَ إلى ما يرجوه من غايةٍ إلا إذا بلغت ثقتُه بالله منتهاها.

( إن فرديّة الإنسان تنقصُ على قدر بعده من الخالق، والإنسانُ الكامل هو الأقربُ إلى الله ).

فعلى المسلم أن يكون صاحب حقيقةٍ في هذه الحياة، حقيقةٍ تبدأ ُ بالأنا المؤمنة في نفسه لتصله بعد ذلك بالله ربّ العالمين.

ويرى إقبال أن الأنا المسلمة هي الفكرة العاملة في هذا الوجود و إنّها تأتي وتأتي معها أمّة الإسلام عن يمينها و شمالها و أمامها و خلفها. ولن تبلغ نفس المسلم منـزلة الاختيار إلا وهي تملك هذه الحقيقة السّامية، حينها وحسب تجسرُ على مواجهة قوى الصّبيعة وتسخيرها في خدمة هذا الدّين الحنيف.

( فإذا قهرت الذّاتُ كلّ الصّعاب التي في طريقها بلغتْ منزلةَ الاختيار، ومقصدُ الذّات أن تبلغَ الاختيارَ بجهادها ).

إنّ محمد إقبال وهو صاحب الفكر الثّاقب والقلب المؤمن والنظرة الصّائبه لا يريد أن يبقى متفرّداً بهذه الصفات الطيبة في أمةٍ نام أهلها عن الحقيقة الكبرى، بلْ يريدُ من كلّ مسلمٍ أن تكون في فؤاده الحرقةُ ذاتُها ، وأن يأتي من جديد ليبدأ سيرة التبليغ في هذا الوجود. وها هو يهيب بكل من تشرّف بحملِ الشّهادة الأولى أن يسلك معه طريقه الإيماني لبلوغ المرام ، فقد آن الأوان لأن تتفتّق الأكمام عن أزهارها ، وأن تنكشفَ الأصدافُ عن جواهرها. فتأمّله وهو يقول:

أشعلَ الذّرّةَ لحني الثّــــــائـــرُ.... رفرفتْ فهْي جنـاحي الطّائرُ

إنْ تكنْ صحراءَ فاطلبْ لجّتي.... أو تكنْ سيناءَ فاقبسْ شعلتي

في بستان محمد إقبال تتنوّعُ أثمارُ الحبّ فتنعمُ اليدُ الطالبة و تسرُّ العين الرّائية، ومادمنا نزلاء هذا الرّوض الجميل فلن نبخل على أنفسنا بالمزيد علّنا نعود من هذه السّياحة الطيّبة بزادٍ من الحقيقة والمعرفة والإيمان.