الإثنين 04 مارس 2024
20°اسطنبول
27°أنقرة
31°غازي عنتاب
26°انطاكيا
29°مرسين
20° اسطنبول
أنقرة27°
غازي عنتاب31°
انطاكيا26°
مرسين29°
34.06 ليرة تركية / يورو
39.73 ليرة تركية / جنيه إسترليني
8.62 ليرة تركية / ريال قطري
8.37 ليرة تركية / الريال السعودي
31.39 ليرة تركية / دولار أمريكي
يورو 34.06
جنيه إسترليني 39.73
ريال قطري 8.62
الريال السعودي 8.37
دولار أمريكي 31.39

البرامج السّاخرة .. رؤية شرعيّة (1)‏

المقال الأوّل: السّخرية من الأعداء والحكّام المستبدّين

السُّخرية هي النّاطق الرسميّ باسم الغالبيّة المقهورة حين يتوارى الجدّ خلف ستار الصّمت والخوف والقلق، ‏وهي عند الشّعوب المطحونة السّبيلَ لتقديم الحقائق المرّة والمعاناة العلقم مرتديةً ثوب  الحلوى من التعابير ‏والضّحكات.‏

فالسّخرية هي "الملاذُ الأخير لشعبٍ متواضعٍ وبسيطٍ" كما قال تيودور دوستويفسكي، وهي كما قال فولتير: ‏‏"سلاحُ الأعزلِ المغلوبِ على أمرِه".‏

والسّخرية ضاربة الجذور في التّاريخ البشري؛ لكنّها بوصفها حالةً ممنهجةً برزت مع تبلور الأدب والفنون ‏بأشكالها المختلفة، غير أنّ ما صار يتعارف عليه باسم البرامج الساخرة فقد ظهر جليًّا في العالم العربيّ مع ‏انطلاقة الرّبيع العربي وهو امتدادٌ للفنّ والأدب السّاخر الذي سبقَ هذه البرامج بعقود.‏

ولأنّ هذه البرامجُ في غالبِها غدَت جزءًا من الحالة الثّوريّة، ولكون السّخرية من القضايا ذات الحساسية ‏الفائقة أخلاقيًا واجتماعيًا؛ فكان لا بُدّ من وضعها في إطارٍ ناظم؛ وهذا الإطار ينبغي أن يكون الموقف ‏والحكم الشّرعيّ الذي يعدّ الإطار النّاظم لحركة الإنسان في هذا الكون، وهو الضّامن له بأن تكون حركته ‏هذه جزءًا من إحقاق الحق وإعمار الكون.‏

 •  الحكم على الشيء فرعٌ عن تصوّره ‏

القاعدة الشرعيّة تقول " الحكمُ على الشّيء فرعٌ عن تصوّره" فحتى يكون الحكم دقيقًا وسليمًا فلا بدَّ من أن ‏يكون التّصور عن المسألة محلّ البحث دقيقًا ومتكاملًا أيضًا.‏

البرامج السّاخرة التي نقصد الحديث عنها هي جزء من برامج "التّوك شو" وبرامج "المذيع النّجم" وتتم مخاطبة ‏الجمهور فيها بطريقة تثير سخريته من شخصٍ أو كيانٍ أو فكرة.‏

وعادة ما يكون الهدف من هذه البرامج اغتيال الشخصيات والكيانات معنويًّا، وتحطيم الأفكار والتابوهات، ‏وإعادة تشكيل قناعات الجمهور السياسية والاجتماعية والفكرية والدينية.‏

ولهذه البرامج سماتٌ أهمّها:‏

‏1.‏  برامج تناهضُ الظّلم والاستبداد السّياسي وتهاجم الحكّام المستبدّين والأعداء، فتوجّه سهام السّخرية إلى ‏هذه الأنظمة وأركانها ورموزها.‏

‏2.‏  تستهدفُ هذه البرامج أعوانَ الظّلمة والمستبدّين بالسّخرية والاستهزاء من الإعلاميين ‏والفنّانين والدّعاة ‏الذين يساندون هؤلاء المستبدّين أو الطّغاة.‏

‏3.‏  تستهدفُ هذه البرامج العادات والتّقاليد الاجتماعية بالسّخرية والاستهزاء بهدف إسقاطها معنويًا ‏وتشويهها وكسر مكانتها في نفوس معتنقيها.‏

‏4.‏  بعض هذه البرامج تستهدف الخصومَ السّياسيين والمقصود هنا الخصوم السياسيين من داخل التيار نفسه ‏كالخصوم داخل التيار الثوري من كيان أو جماعة أو حزب آخر على سبيل المثال. ‏

‏5.‏  بعضُ هذه البرامج تستهدف المعتقدات الدّينية سواءً أكانت هذه المعتقدات إسلامية أو معتقدات لأتباع ‏ديانات أخرى، أو سخرية من شعائر ورموز دينيّة مثل الحجاب أو اللّحية أو غير ذلك.‏

 •  مفهوم السّخرية وحكمها الأصليّ

هذه البرامج ترتكز على السّخرية من الآخر سواءً كان هذا الآخر شخصًا أو كيانًا أو فكرةً أو معتقدًا أو ‏كانت هذه السّخرية بحقّ أم باطل، وهذا يفرض علينا أن نحرّر مفهوم السّخرية ابتداءً.

‏ أوّلًا: مفهوم السّخرية ‏

قال ابن فارس في معجم مقاييس اللّغة: "سخر: السين والخاء والراء أصل ٌ يدلُّ على احتقار واستذلال"‏

ويفهم من هذا أن السخرية هي: الذمّ المؤذي للمسخور منه، والاستهزاء والتحقير والانتقاص منه، وفضح ‏عيوبه بطريقة تثير ضحك الناس، والسّخرية تكون بالقول والفعل أو الإشارة والإيماء.‏

وقد عبّر ابن تيمية عن هذا المعنى فقال: "الاستهزاءُ هو السّخرية؛ وهو حملُ الأقوال والأفعال على الهزل ‏واللّعب لا على الجد والحقيقة، فالذي يسخر بالناس هو الذي يذمُّ صفاتهم وأفعالهم ذمًّا يخرجها عن درجة ‏الاعتبار"‏

ثانيًا: الحكم الأصلي للسّخرية ‏

عدَّ القرآنُ الكريم السخرية من حيث المبدأ والأصل من المحرّمات الكبيرة سواءً كانت بحق أفراد أو جماعات، ‏

وذلك في قوله تعالى : "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِّن ‏نِّسَاءٍ عَسَىٰ أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ ۖ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ ۚ ‏وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ" الحجرات:11‏

وقد بيّن القرآن الكريم بأنَّ من يمارسُ السّخرية يخرجُ عن وصف الإيمان ليدخلَ في وصف الفسوق ويكون ظالمًا ‏إن لم يسارع الى التدارك والتوبة.‏

ولكن هذا الحكم العام لا ينطبق على سائر أفراده؛ ففيه استثناءاتٌ عديدةٌ نذكرها بناءً على التّصور لحقيقة ‏دوافع البرامج الساخرة.‏

وسنقوم بشكل متتابع بإذن الله تعالى بالبحث التّفصيليّ في كلّ صورة من صور السّخرية التي تنطوي عليها ‏هذه البرامج عادة، والبداية مع السّخرية من الأعداء والحكّام المستبدّين

 •  السّخرية من الأعداء المعتدين والحكام المستبدّين وأعوانِهم

بين يدي بيان الحكم في هذه المسألة على وجه التّحديد لا بدّ من بيان القاعدة الأصوليّة التي تمثّل الإطار العالم لهذه ‏القضيّة

 •  للوسائل حكم المقاصد

هذه القاعدة الأصوليّة ترسم إطارًا عامَّا للحكم ‏الشرعي المتعلق بالسخرية، وذلك أنّه يقصد منها الأذيّة ‏‏والاحتقار والإذلال والتّحطيم والاغتيال المعنوي.‏

‏ ولما كانت هذه الصفات في أصل التّعامل ‏الإنساني محرّمة كانت الوسيلة المؤدية إليها وهي السّخرية ‏محرمة ‏أيضًا، ولكن هذه المقاصد ليست محرمة على الإطلاق ‏بل تكون أحيانًا واجبةً ومطلوبة.‏
‏ ‏
وإنّ مهاجمة الأعداء المعتدين والحكام المستبدين المجرمين من المقاصد المشروعة في الإسلام، والتّسبب بالأذى ‏الماديّ والمعنويّ لهم، وإذلالهم وتحقيق النّكاية بهم والإغاظة لهم؛ من المقاصد العظيمة والأفعال المحمودة؛ ‏فكانت الوسيلة لتحقيق هذه المقاصد وهي السخرية مشروعةً ومطلوبة؛ بل تصل إلى درجة الجهاد المبرور.‏

والسّخرية من الأعداء والطّغاة تندرج تحت "الهجاء" وهو في الشّعر الذّم والتهجم والسخرية، وهو في أصله ‏محرّم لأنّه يثير العداوة والبغضاء بين الناس.‏

غيرَ أنَّ النبيّ صلّى الله عليه وسلم أمر بهجاء المشركين المعتدين، بل إنّه صلى الله عليه وسلم نصب منبرًا ‏لحسان بن ثابت رضي الله عنه في المسجد ليكون وسيلةً إعلاميّة مؤثّرةً في هذا العدوّ، وبيّن له أنّ معه مساندة ‏من جبريل عليه السلام في صنيعه هذا؛ فقال له كما في الصحيحين: "اهجُهم أو هاجِهم وروحُ القدس ‏معك".‏

والذين يقومون في برامجهم الساخرة بهجاء الأعداء المعتدين، والطغاة المستبدّين، والقتلة المجرمين هم على نهج ‏حسّان بن ثابت، ويمارسون الدّور نفسه في الجهاد بالكلمة والمقارعة باللّسان.‏

وعندما رجع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم من بدرٍ منتصرًا جاءته الوفود لتهنّئه، فقال لهم سَلَمَة بن سلامة ساخرًا‏: ‏‏ما الذي تهنّئوننا به‏؟‏! فوالله إنْ لَقِينا إلّا عجائزَ صُلْعًا كالْبُدْن المعُقَّلَةِ، فنحرناها، فتبسّم رسول الله صلى الله عليه ‏وسلم، ثم قال‏:‏ ‏"يا بن أخي أولئك الملأ‏"‏

فتبسُّمُ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إقرارٌ على السّخرية من هؤلاء الأعداء بل على السّرور بها، وقولُه: "أولئك الملأ" ‏أي الأشراف والسّادة لبيان قيمة النّصر وأنّه كان على سادة القوم وأشرافهم مع الإقرار بالسّخرية منهم.‏

ويندرج تحت جواز السّخرية من الطّغاة المشركين السخرية ممن يعينهم على ظلمهم وفجورهم ويجاهر بذلك بالقول ‏والفعل من الاعلاميين والفنانين وعلماء السلاطين فهؤلاء حكمهم في السّخرية منهم كحكم سادتهم وكبرائهم.‏

على أنَّ هذا الجواز ينبغي أن ينضبط بضوابط شرعيّة نفرد لها بإذن الله تعالى مقالًا خاصًا كونها ضوابط تنطبق ‏على حالات الجواز كلّها.‏
المصدر: موقع عربي21
جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي آرام ميديا