لتفسير تعقيدات المشهد السياسي في تركيا يحتاج الإنسان الغوص في تركيبة المجتمع التركي لإدراك حجم التناقضات العجيبة سواء على المستوى السياسي أو الفكري أو الثقافي والتي انعكست بشكل واضح من خلال التحالفات الانتخابية لدى الطرفين بحيث اجتمع لدى كل فريق منهم كل ألوان الطيف السياسي من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، وهذه ظاهرة بحد ذاتها تحتاج إلى دراسة، وكل ما سمعناه من تحليلات وتوقعات واستطلاعات للرأي كان أشبه بلعبة النرد التي تعتمد على الحظ.
لقد جاءت النتيجة مفاجئة حتى للسياسيين الأتراك أنفسهم، فحزب الشعب الجمهوري الذي يعتبر أقدم حزب سياسي في تركيا كان ينافس على الرئاسة من خلال مرشحه كليشدار أوغلو ولكنه كان يتحدث بلغة الجزم بأنه سيحرز مع حلفائه تقدم كبير في البرلمان وهذا ما يسمح له بنسف النظام الرئاسي والعودة بالبلد إلى النظام البرلماني.
فجاءت الرياح على عكس ما يشتهي فلا استطاع أن يحسم كرسي الرئاسة ولا الفوز بأغلبية برلمانية ، وهذا ما حدث لتحالف الجمهور الذي يقوده حزب العدالة والتنمية والذي كان يعول على حسم كرسي الرئاسة في الجولة الأولى معتمداً على ما يملكه مرشحه أردغان من كاريزما قيادية وعلى ما حققه من إنجازات ومشاريع كبرى خلال سنوات وجوده الطويلة في الحكم.
ولكنه لم ينجح في ذلك بحيث تأجل الحسم الرئاسي إلى جولة ثانية، بينما كان يخشى أن يفقد أغلبيته البرلمانية وهذا ما صرح به بعض كوادر الحزب بعد صدور نتائج الفوز بغالبية في البرلمان.
السؤال الذي يطرح نفسه أمام هذه النتيجة، على أي أساس يصوت الناخب التركي لهذا الطرف أو ذاك؟
هل يبحث عمن يقدم له الخدمات الأفضل؟
لو كان ذلك لفاز حزب العدالة فوزاً ساحقاً بناء على ما قدمه من خدمات خلال عشرين سنة في السلطة، فتركيا قبل العدالة والتنمية كانت دولة مدانة بمليارات الدولارات وكان الفساد الإداري والاقتصادي ينخر كل مؤسساتها، والعدالة والتمنية هو من وضعها في مصاف الدول المتقدمة على مستوى العالم سياسياً واقتصادياً وعلمياً وعسكرياً، وأصبحت لاعباً إقليمياً لايستهان به.
والخدمة الكبرى والأهم من كل الخدمات التي قدمها حزب العدالة للشعب التركي هو عزل العسكر من مشرف على الحياة السياسية ومتحكم بها وأعاده إلى دوره الطبيعي وهو الحماية.
وهذا ما سمح للشعب التركي بكل أطيافه بالمشاركة بالحياة السياسية بكل حرية وهذا ما شاهدناه من خلال الانتخابات، فلماذا جاءت نتيجة الصندوق وكأنها عقوبة لحزب العدالة والتنمية الذي قدم كل هذه الخدمات!؟
يقول بعض المحللين إن الفئة العمرية الشبابية التي دخلت سوق الانتخابات للمرة الأولى والتي تقدر بخمسة ملايين صوت تطمح إلى التغيير وتريد أن ترى وجوهاً جديدة في إدارة الدولة وبالتالي ذهب قسم كبير من أصواتها إلى مرشح المعارضة الرئاسي.
إذا سلمنا بهذا القول فعن أي تغيير يتحدث هؤلاء المحللون وعن أي تغيير يريده الشباب؟
على الرغم من أن أردغان قاد حزبه من انتصار إلى آخر خلال عشرين سنة وهو وحزبه من عدل القانون بحيث يستطيع الشباب أن يشاركوا بالانتخابات بعمر 18 سنة، بينما سجل كليشدار أوغلو الهزيمة الثانية عشرة أمام أردوغان، فهل يعقل أن يصوت الشباب لصاحب أكبر رقم في الهزائم الانتخابية؟
وعلى مستوى الأحزاب إذا كان من حق حزب العدالة أن يبقي أردوغان كرئيس له ومرشح للرئاسة فهذا لما حققه من إنجازات، فما الذي يدفع حزب الشعب الجمهوري للاحتفاظ بكليشدار أوغلو في الواجهة رغم سجله الحافل بالهزائم ؟
تبدو كل هذه الاعتبارات لا قيمة لها ولا تستطيع أن تغير المعادلة عندما تلقي الإديولوجيا بثقلها في صندوق الانتخابات، والرسالة الأخيرة لكلا الطرفين قبل الصمت الانتخابي لها دلالتها الواضحة على طبيعة المعركة.
إذ بعث بها أردوغان من المسجد، بينما بعثها كليشدار من أمام ضريح أتاتورك، إنه صراع ثقافي بين ضدان لا يلتقيان، الإسلام والعلمانية.
المقالات المنشورة تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبّر بالضرورة عن رأي شبكة آرام ميديا
اقرأ أيضاً:
• الكونغرس يقرّ قانون "محاربة التطبيع مع نظام الأسد" بأغلبية ساحقة
شاهد إصداراتنا: