الإثنين 08 ابريل 2024
20°اسطنبول
27°أنقرة
31°غازي عنتاب
26°انطاكيا
29°مرسين
20° اسطنبول
أنقرة27°
غازي عنتاب31°
انطاكيا26°
مرسين29°
34.44 ليرة تركية / يورو
40.21 ليرة تركية / جنيه إسترليني
8.78 ليرة تركية / ريال قطري
8.53 ليرة تركية / الريال السعودي
31.98 ليرة تركية / دولار أمريكي
يورو 34.44
جنيه إسترليني 40.21
ريال قطري 8.78
الريال السعودي 8.53
دولار أمريكي 31.98
...

وقفة تأمُّل في باب القضاء والقدر

19 مارس 2020، 01:12 م

في بداية طلبي للعلم الشَّرعي، كنت أقرأ الأحاديث الشَّريفة، التي تتحدَّث عن القضاء والقدر، فأشعر بحيرة وحرج في فهمها وتدبُّرها، من ذلك على سبيل المثال:

1- عن علي رضي الله عنه قال: كنَّا في جنازة في بقيع الغرقد، فأتانا رسول الله ﷺ فقعد وقعدنا حوله، ومعه مِخْصَرة، فنكس وجعل ينكت بمخصرته، ثم قال: ( ما منكم من أحد إلا وقد كُتب مقعده من النَّار، ومقعده من الجنَّة، فقالوا: يا رسول الله !! أفلا نتَّكل على كتابنا، فقال: اعملوا؛ فكلٌّ ميسر لما خلق له ) متفق عليه.

2- عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: حدَّثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الصَّادق المصدوق قال: ( فوالذي لا إله غيره، إنَّ أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنَّة، حتَّى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النَّار، فيدخلها، وإنَّ أحدكم ليعمل بعمل أهل النَّار، حتَّى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنَّة، فيدخلها) متفق عليه.

3- عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أنَّه سُئِل عن هذه الآية: "وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ ) الأعراف: 172. فقال: سمعت رسول الله ﷺ سُئِل عنها، فقال: ( إنَّ الله خلق آدم عليه السَّلام، ثم مسح ظهره بيمينه، فاستخرج منه ذريَّة، قال: خلقت هؤلاء للجنَّة، وبعمل أهل الجنَّة يعملون.

ثم مسح ظهره، فاستخرج منه ذريَّة قال: خلقت هؤلاء للنَّار، وبعمل أهل النَّار يعملون، فقال رجل: يا رسول الله !! ففيم العمل ؟ قال رسول الله ﷺ: إنَّ الله عزَّ وجلَّ إذا خلق العبد للجنَّة استعمله بعمل أهل الجنَّة، حتَّى يموت على عمل من أعمال أهل الجنَّة، فيدخل به الجنَّة، وإذا خلق العبد للنَّار استعمله بعمل أهل النَّار، حتَّى يموت على عمل من أعمال أهل النَّار، فيدخل به النَّار ) رواه أحمد، أبو داود، والترمذي، والنسائي.

4- قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، قَالَ: كَانَ فِينَا رَجُلٌ أَتَى لَا يُدْرَى مِمَّنْ هُوَ، يُقَالُ لَهُ: قُزْمَانُ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ، إذَا ذُكِرَ لَهُ: إنَّهُ لَمِنْ أَهْلِ النَّارِ، قَالَ: فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ قَاتَلَ قِتَالًا شَدِيدًا، فَقَتَلَ وَحْدَهُ ثَمَانِيَةً أَوْ سَبْعَةً مِنْ الْمُشْرِكِينَ، وَكَانَ ذَا بَأْسٍ، فَأَثْبَتَتْهُ الْجِرَاحَةُ، فَاحْتُمِلَ إلَى دَارِ بَنِي ظَفَرٍ، قَالَ: فَجَعَلَ رِجَالٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَقُولُونَ لَهُ: وَاَللَّهِ لَقَدْ أَبْلَيْتَ الْيَوْمَ يَا قُزْمَانُ، فأبشر، قَالَ: بِمَاذَا أبشر؟ فو الله إنْ قَاتَلْتُ إلَّا عَنْ أَحْسَابِ قَوْمِي، وَلَوْلَا ذَلِكَ مَا قَاتَلْتُ. قَالَ: فَلَمَّا اشْتَدَّتْ عَلَيْهِ جِرَاحَتُهُ أَخَذَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ، فَقَتَلَ بِهِ نَفْسَهُ.

السيرة النبوية، لابن هشام - غزوة أحد.

4- عن أبي إسحاق قال: سمعت البراء رضي الله عنه يقول: أتى النَّبي صلَّى الله عليه وسلَّم رجل مقنَّع بالحديد، فقال: يا رسول الله !! أقاتل أو أسلم، قال: أسلم ثمَّ قاتل، فأسلم ثمَّ قاتل فقتل، فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: عمل قليلًا وأجر كثيرًا. رواه البخاري.

5- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول: ( لن يُدخِل أحدًا عملُه الجنَّة ) قالوا: ولا أنت يا رسول الله ؟ قال: ( لا، ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله بفضل منه ورحمة ) رواه البخاري.

هذه الأحاديث وغيرها كانت تشدُّني شدًا عنيفًا لأن أتساءل:

1- الله سبحانه وتعالى كتب في اللُّوح المحفوظ الشَّقي والسَّعيد منَّا، فلماذا يحاسبنا على شيء كتبه علينا ؟؟.

2- ما دام المكتوب ليس منه هروبٌ، والعمل لا يقدِّم ولا يؤخِّر من القدر شيئًا، فلماذا أعذِّب نفسي وأتعبها بالعبادة، والنَّتيجة محسومة عند الله تعالى ؟؟.

3- ما دام لن يدخل أحد الجنَّة بعمله، حتَّى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم لن يدخل الجنَّة بعمله، ولكن الكلُّ سيدخلها برحمة الله، فلماذا لا أترك العمل، وأتَّكل على رحمة الله التي وسعت كلَّ شيء ؟؟.

ولم يُشفِ غليل نفسي من هذه التَّساؤلات إلا الشيخ: محمد الحجار - رحمه الله رحمة واسعة - وهو من علماء حلب الرَّبَّانيين، حيث زرته في المدينة المنورة، وكان مجاورًا لسنين في الحرم النَّبوي، وقصصت عليه ما يحدث في نفسي، عندما أقرأ متأمِّلًا ومتدبِّرًا في أحاديث القدر، فقال لي: اسمع يا بني: هل أنت اطلعت على اللَّوح المحفوظ، ونظرت فيه، ورأيت أنَّه مكتوب لك أنَّك من أهل الشَّقاوة، أو من أهل السَّعادة، أو أن مستقرَّك الأخير الجنَّة أو النَّار، فقلت له: لا أبدًا، ذاك محال.

فقال: والله عزَّ وجلَّ أكرمك، ومنَّ عليك بالعقل، الذي هو مناط التَّكليف، وأرسل لك الرَّسول محمدًا عليه الصَّلاة والسَّلام، فأقام عليك الحجَّة، وأبان لك المحجَّة، وأوضح لك السَّبيل، تحقيقًا لقوله تعالى: ( رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ) النساء: 165.

فأوضح لنا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم الطَّريق الموصلة لرضا الله والجنَّة، والطَّريق المغضبة لله، والتي إن سلكها العبد تقوده للنَّار، وأنعم الله عليك بنعمة العقل، الذي هو مناط التَّكليف، وأنت بعقلك تختار الصَّالح لك، والعقل الصَّحيح السَّليم يقول لك: اسلك سبيل وطريق رضا الله والجنَّة، وابتعد عن طريق المعصية الموصلة لغضب الله والنَّار، ولا تتعب فكرك بطول التَّأمُّل والتَّفكير، خاصَّة وهذا الطَّريق سلكه خيار النَّاس، ممن أنعم الله عليهم من النَّبيين الصِّدِّيقين والشَّهداء والصَّالحين، وليس أمامك إن حصل معك هذا الإشكال، إلا أن تتوجَّه إلى الله تعالى بهذا الدُّعاء:

اللهمَّ أنت قلت في كتابك الكريم: ( يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ ۖ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ) الرعد: 39.

اللهمَّ إن كنت كتبت في اللَّوح المحفوظ عندك أنِّي من أهل الشَّقاء والنَّار، اللهمَّ بفضلك ومنِّك وجودك وكرمك فامحه، واكتبني من أهل السعادة والجنَّة، إنَّك على كلِّ شيء قدير، وبيدك مقاليد السَّماوات والأرض..

اللهمَّ ثبتني بالقول الثَّابت في الحياة الدُّنيا وفي الآخرة، وقني عذاب النَّار..

عدُّت من المدينة المنورة بعد لقاء الشَّيخ رحمه الله تعالى ونفسي مطمئنَّة، وصدري منشرح، وقلبي مرتاح ينبض بالإيمان واليقين، فأوصي كلَّ من يحصل له تساؤلات في القدر أن يطبِّق ما وصفه لي شيخنا المبارك، وفَّق الله الجميع للعلم النَّافع، والعمل الصَّالح..

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلَّى الله وسلَّم على نبينا محمَّد، وعلى آله وصحبه وسلَّم..