السبت 06 ابريل 2024
20°اسطنبول
27°أنقرة
31°غازي عنتاب
26°انطاكيا
29°مرسين
20° اسطنبول
أنقرة27°
غازي عنتاب31°
انطاكيا26°
مرسين29°
34.44 ليرة تركية / يورو
40.21 ليرة تركية / جنيه إسترليني
8.78 ليرة تركية / ريال قطري
8.53 ليرة تركية / الريال السعودي
31.98 ليرة تركية / دولار أمريكي
يورو 34.44
جنيه إسترليني 40.21
ريال قطري 8.78
الريال السعودي 8.53
دولار أمريكي 31.98
...

الأجر والثَّواب على قدر المشقَّة والاحتساب

23 مارس 2020، 10:39 ص

حكم الخليفة العادل: عمر بن عبد العزيز - رحمه الله - سنتين وشهرين وسبعة عشر يومًا، أنجز في هذه الفترة القصيرة من توليه الخلافة إنجازات جبارة، وعمل أعمالاً عظيمة، من أعماله: تدوين السنّة النبوية؛ فيعدّ تدوين السنّة النبويّة من أهمّ إنجازاته، فبعد أن نهى النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- عن تدوين السُّنة وجمعها، حتى لا يلتبس على المسلمين ما يقرؤون، ومكث هذا سنواتٍ طويلةً، حتى أمر عمر بن عبد العزيز بجمعها، ووضعها في دفاتر مرتبة، ولقد أخرج البخاري في صحيحه: (كتب عمر بن عبد العزيز إلى أبي بكر بن حزم: انظر ما كان من حديث رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- فاكتبه فإنّي خفت دروس العلم وذهاب العلماء، ولا تقبل إلّا حديث النبيّ صلّى الله عليه وسلّم). واحترم حقوق الإنسان وذوي الاحتياجات الخاصة؛ إذ جعل لكلّ مريضين خادماً يقوم على راحتهما، وعيّن لكلّ خمسة أيتامٍ خادماً، وعيّن لكل أعمى خادماً يعينه ويقضي حاجته. وانتشر العدل والخير وفاض المال، حتى صار ينادى في أسواق المدن والقرى والهجر على من يقبل الزكاة، فلا يوجد فقير ولا مسكين يأخذها، وتم الإنفاق على طلبة العلم والمجاهدين إلى أنْ اكتفوا من المال تمامًا، وتم تزويج كل راغب بالزواج، ومع ذلك لا يزال بيت مال المسلمين عامرًا بالخير والأموال، إلى درجة صار ينثر القمح على رؤوس الجبال، لتأخذ الطيور حاجتها من الطعام، كي لا يُقال جاع طير في ديار المسلمين، سئل الخليفة العادل يومًا: أنجزت كل هذه الأعمال والإنجازات في مدة خلافتك القصيرة، فكيف وصلت لما وصلت إليه من هذه الإنجازات ؟؟ فَقَالَ: ( لم أخط خطوة إلا بنية )  فإن وجدها في طاعة الله، وفي خدمة المسلمين ومصلحتهم أقدم، وإن وجدها في غير مصلحة المسلمين أحجم، هكذا بلغ ما بلغه من الأعمال: بالنية الصادقة والصالحة، واحتساب الأجر والثواب عند الله تعالى، هذه الخصلة التي نحن بأمس الحاجة إليها في هذا الزمان، الذي كثر فساده، وقلَّ خيره، وغلَّب معظم الحكام والمحكومين مصالحهم الشخصية على مصلحة الأمة، ولذلك في هذا الباب، لديَّ ثلاث رسائل أرغب بتوجيهها للعامة والخاصة:
الرسالة الأولى:
الحديث في " النيات " من أدق الأحاديث وأصعبها؛ لارتباطها بخفايا النفوس، وتعلقها بأفكار القلوب، التي لا تنكشف إلا بالتفكر في مراحلها ودرجاتها، ولأن علم السلوك قائم عليها، يدور في فلكها، وهو من أدق العلوم وأرقاها، ولا تتم سعادة العبد، ولا نجاته يوم القيامة؛ إلا بالتوفيق إلى النية الصالحة.
لذلك نجد في صفحات تراث سلفنا الصالحين، وعلمائنا الأبرار المتقين الكثير من تجارب الخوض في هذه الأبواب، والكثير من العلوم التي بنيت لفهم حقيقة النية، وطريقة الإخلاص، ومعالجة الإرادة. 
وكان مما قالوه أن كل عمل لا بد - كي يقوم ويتم - أن تتحقق فيه أركان ثلاثة: 
1- الداعية الباعثة على العمل ( العلم ) 
2- والإرادة التي هي الانبعاث نحو العمل ( القصد والنية ) 
3- والقدرة (العمل).
ولنمثل لذلك بمثال يتضح به المقال : إذا هجم على الإنسان سبع أو وحش مثلا ، فإن معرفته بضرر السبع وأذيته له هي الداعية الباعثة على الهرب للتخلص من ذلك الضرر، فتحقق الركن الأول ( الباعث )، ولذلك ستنبعث في قلبه إرادة الهرب وقصده، فيتحقق الركن الثاني ( النية )، ثم تنتهض القدرة لتفعل فعل الهرب بسبب الإرادة، فيتم الفعل بذلك.
فالفعل هنا هو الهرب، والنية هي الفرار من السبع لا غير، والباعث الذي هو المقصد المنْوِي الذي دعا إلى الفعل، هو التخلص من ضرر السبع وأذاه. 
ينظر: " إحياء علوم الدين "، للغزالي (4/365). 
فمن أراد أن ينوي النية الصالحة في عمله، فلا بد أن يلتفت إلى الباعث الداعي الذي يزجره نحو ذلك العمل، فيحرص على أن يكون باعثه أمرًا صالحًا مشروعًا ، مما يحبه الله ويرضاه ويثيب عليه، فتنطلق النية والإرادة نحو ذلك العمل، بسبب هذا الباعث الصالح، وبهذا تكون النية لله تعالى، ثم عليه بعد ذلك أن يحافظ على هذا الداعي الأصلي الخالص لله تعالى، فلا يتفلَّت منه أثناء عمله، ولا يتقلب، ولا ينصرف إلى غير الله، ولا يداخله شرك آخر . ولهذا قال سفيان الثوري رحمه الله: " ما عالجت شيئاً عليّ أشد من نيّتي، إنها تتقلب عليّ " !!
الرسالة الثانية:
الاحتساب: هو مرادف الإخلاص لوجه الله تعالى، لا فرق بينهما، فمن نوى بعمله نية صالحة، فقد احتسبه عند الله تعالى، ولا يحتاج إلى مزيد استحضار قلبي لفكرة أخرى .
يقول الإمام النووي رحمه الله:
" معنى: ( احتسابًا ): أن يريد الله تعالى وحده، لا يقصد رؤية الناس، ولا غير ذلك مما يخالف الإخلاص " شرح مسلم: (6/39).
ويقول ابن بطال رحمه الله: 
" وقوله: ( احتسابًا ) يعنى: يفعل ذلك ابتغاء وجه الله تعالى "
شرح صحيح البخاري: (4/146).
ويقول الحافظ ابن حجر رحمه الله:
" الأجر الموعود به إنما يحصل لمن صنع ذلك احتسابًا، أي: خالصًا" فتح الباري: (1/110).
لا بد من نشر ثقافة الاحتساب، وذلك في كافة ميادين ومجالات الحياة، الوالدان بحاجة لاستحضار ثقافة الاحتساب أثناء معاناتهم في تربية الأبناء، والزَّوجان بحاجة لاستحضار ثقافة الاحتساب في حياتهما الزوجية، فصبر المرأة على خلق زوجها، وصبر الزوج على خلق زوجته، واحتساب أجر هذا الصبر عند الله، له دور كبير في استمرار حياة الزوجية بينهما، وزرع المودة والمحبة والسعادة في قلوبهما، الجيران بحاجة لاستحضار ثقافة الاحتساب، فهي حريَّةٌ أن تقضي على كافة الحساسيات والإزعاجات بينهم، الأقارب والأرحام بحاجة لاستحضار ثقافة الاحتساب حتى تذوب جميع الإشكاليات والخلافات بينهم، الأصدقاء بحاجة لاستحضار ثقافة الاحتساب لإزالة تلال الجليد المتراكمة بينهم، والتي كدَّسها شياطين الجن والإنس، الطالب والمعلم بحاجة لاستحضار ثقافة الاحتساب، لمحو تلك المواقف المتراكبة خلال العام الدراسي، سواء من المعلم لدى الطالب أو العكس.
إن استحضار ثقافة الاحتساب عند كل علاقة تبدؤها، تحصِّل من ذلك أربع فوائد: 
1- الأجر والثواب عند الله.
2- السَّعادة والطمأنينة والهدوء النفسي.
3- سلامة الصدر لإخوانك المسلمين.
4- تقليل الأعداء، وتكثير الأصدقاء.
الرسالة الثَّالثة:
روى الطبراني حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فيه: " عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين، رجالٌ ليسوا بالأنبياء ولا الشهداء، يُشعُّ ضياءُ وجوههم نظر الناظرين، يغبطهم النبيّون والشهداء على مقعدهم وقربهم من الله عز وجلَّ، قالوا: من هم يا رسول الله ؟ قال: جُمَّاعٌ من نوازع القبائل يجتمعون على ذكر الله، فينتقون أطايب الكلام كما ينتقي آكل التمر أطايبه" حديث حسن.
أطايب الثمر، هي التي تستهوي القلوب، وتستميل النفوس، وتشبع رغبة الإنسان، وتنفع جسده وروحه. وأطايب الكلام، هي التي تسعد القلوب، وتشرح الصدور، وتحقِّق لروح الإنسان وقلبه وعقله، ما تحققه أطايب الثمار لجسده.
هذا هو الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه يقول: (لولا ذكر الله وما والاه، ولولا إخوة يُلْتَقَطُ طيِّب الكلام معهم كما يُلْتَقَطُ طيِّب الثَّمر لآثرتُ الموت على الحياة)، فما أجمل هذه الثمار الطيِّبة التي تُلتقط من الأشجار، وما أجمل تلك الثِّمار الطيبة التي تلتقط من الأفواه..
اختاروا ملافظكم، فالملافظ سعد وسعادة، والرفق ما كان في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه، واللسان نعمة من الرحمن، ستسأل عنها أيها الإنسان، فالمرء بأصغريه قلبه ولسانه، جرِّب أخي في تحسين ملافظك مع من يلوذ بك من زوجة وولد وجار وصديق وزميل ستجد فرقًا كبيرًا في حياتك، ستشعر بسعادة لو علمها غيرك لحسدك عليها، تفكر بقول الله عز وجل: ( مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ) ق: 18. وقوله تعالى: ( أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ ) المجادلة: 6.
حاول ألا تجرح مسلمًا ولو بشطر كلمة، وإن جرحته ساهيًا، فاعتذر منه مباشرة، أقسم لك أنك ستحصِّل سعادة وراحة نفسية كبيرة..
ختامًا أقول:
تحتاج ثورتنا الشامية المباركة لتفعيل ثقافة الاحتساب في كل حركة وسكنة، وذلك في كافة ميادينها ومجالات عملها المختلفة، فلا بد أن يحتسب السياسي والعسكري والإغاثي والدَّعوي والتعليمي، ويتعامل مع الله في كل عمل يقوم به، ولا يلتفت إلى الفارغين والمثبطين والمنبطحين والمخذلين والمهزومين داخليًا وخارجيًا، ويرفع رأسه عاليًا أنَّه يخدم دينه وعقيدته وأمته، والسفينة تجري ولا يضرها نباح الكلاب خلفها، فأنت أيها المحتسب قصدك ونيتك كسب الأجر والثواب من الله، فأنت تمشي سويًا على صراط مستقيم، فلا يضيرك ويضايقك ذاك المخذل فهو يمشي مكبًا على وجهه، قال الله تعالى: ( أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَىٰ وَجْهِهِ أَهْدَىٰ أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ )الملك: 22.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلَّى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.