الخميس 04 ابريل 2024
20°اسطنبول
27°أنقرة
31°غازي عنتاب
26°انطاكيا
29°مرسين
20° اسطنبول
أنقرة27°
غازي عنتاب31°
انطاكيا26°
مرسين29°
34.44 ليرة تركية / يورو
40.21 ليرة تركية / جنيه إسترليني
8.78 ليرة تركية / ريال قطري
8.53 ليرة تركية / الريال السعودي
31.98 ليرة تركية / دولار أمريكي
يورو 34.44
جنيه إسترليني 40.21
ريال قطري 8.78
الريال السعودي 8.53
دولار أمريكي 31.98
...

كم في "آيا صوفيا" من دروس السياسة والاجتماع!

15 اغسطس 2020، 03:20 م

حينما أعلن نائب في الحزب الجمهوري المعارض لسياسات الرئيس أردوغان وحزب العدالة والتنمية نيته المشاركة في أول صلاة جمعة تُقام في (آيا صوفيا) بعد إعادة افتتاحه مسجداً؛ لزمَ الوقوف قليلاً بعدُ عند التحدّي الذي كان أطلقَه هذا النائب، فهو يومَذاك أعلن بارتياح: إن استطاع أردوغان وحزبه إعادة افتتاح آيا صوفيا مسجداً فأنا سأقبّل يدَه!

ولم تُسجَّل ردود من الرئيس وحزبه عليه ولا على غيره في مثل هذا التحدّي، ومعلومٌ أن ضغوطات بعض الجماعات الإسلامية كانت أكبر من تحدّي نائب في حزب أتاتورك شديد العلمانية والمعارضة.

فالرئيس حتى وقت قريب خرج في لقاء تلفزيوني يهدّئ المتحمّسين لإعادة افتتاح آيا صوفيا للصلاة، ويذكّرهم بمخاطر الأمر اقتصادياً وسياسياً، وكثير من المحللين أشادوا بما رأوه حكمة من أردوغان وقتَها في عدم انجراره وراء قضية قدّروا أنها يمكن أن تنهيَه سياسياً، وربما جسدياً كما حصل مع مندريس؛ وهؤلاء أنفسهم امتدحوا الرئيس لقوته وجرأته اليوم بما أعلنه من إعادة افتتاح آيا صوفيا مسجداً!!

فالدرس الأول أن القائد لا ينساق وراء الشعارات وحماسة الجمهور؛ بل يعمل على توجيه سيل الجماهير في الاتجاه الذي يريد، حتى تندفع القوة الجماهيرية لهدم أية سدود تعترض الرؤى الصحيحة، وإلا كانت سيلاً جارفاً يدمّر الرؤى وأصحابها.

والحشود التي تركتها الدولة تتوالى ولسنوات تقرع باب آيا صوفيا ليُفتح ليست عبثية؛ فهي قوة هادرة تُرك لها التنفيس في مواقف، مع توجيهها وتصبيرها حتى الساعة الموعودة؛ ومن ذلك مؤرخون ومفكرون عاشوا عقوداً ينتظرون هذه اللحظة، ولم يستنكف الرئيس من الاتصال ببعضهم شخصياً يزفّ إليهم الخبر الذي كانوا منه على ميعاد، فسبقَ القدَر إلى بعضهم قبله وأسعدَ آخرين بإدراكه. فالأمر خارج المصادفات، وأكبر من العشوائية؛ بل فيه نظرة القائد الذي يصبر ويصبّر غيره حتى تنضج الثمار، فيقطفها؛ لأن مَن تعجّل الشيء قبل أوانه عُوقب بحرمانه، وهذا في الأمور المفردة فكيف في سياسات الدول؛ فلا يمكن فصل هذه الخطوة عن توتر العلاقة مع روسيا في سورية وليبيا، ولا عن الجهود "الإنسانية" التي نشطت فيها تركيا ضد وباء كورونا مع الأوربيين وغيرهم!

وكذلك فالإعلان لم يكن من الرئيس مع أنه يقف اليوم على الترميم والتحضير لإقامة صلاة الجمعة، بل ويختار السجاد الذي سيُفرش فيها؛ لكنه أراد للقضية أن تتم على نحوٍ لم يُتوقع بصدوره عن محكمة لا سلطة له عليها، لتكون مواجهة المعارضين للقرار من الداخل والخارج مع الدولة والأمة التركية، وليس مع شخص الرئيس أو حزبه؛ ما انعكس تحت قبة البرلمان بموافقة من العدالة والتنمية وبعض معارضيه بالتصفيق للقرار، وخرج معارضون مشهورون للإشادة بالقرار وتهنئة الرئيس والأمة على القرار التاريخي.

ولا شك أن أردوغان الذي ردّد حُلمه بإعادة افتتاح آيا صوفيا للصلاة، وقبلَه مُرشده أربكان صبرَ عقوداً – وليس سنوات فحسب – حتى وجد أن الأجواء الشعبية والسياسية الداخلية، والأجواء الدولية مناسبة لهذه الخطوة، فأعلنها؛ فهو يدرك جيداً أن قضية آيا صوفيا بخلاف ما أعلنه قضية داخلية محضة، فلها ظلال دولية على امتداد العالم الإسلامي والعالم المسيحي؛ ولا يفوتنا ما كتبه جزّار نيوزيلاندا عن آيا صوفيا: "نحن قادمون إلى القسطنطينية، وسنهدم كل المساجد والمآذن في المدينة، وآيا صوفيا ستتحرر من المآذن، وستكون القسطنطينية بحق ملكاً مسيحياً من جديد"!! ويبدو أن الحلّ لإنهاء هذا الحُلم الامبراطوري المسيحي لا يُقارع بدبلوماسية دائماً، فجاءته الصفعة "العثمانية" لتُعيد أمانة "محمد الفاتح" إلى رحاب الأمة الإسلامية، ويتقرر إعادتها مسجداً كما كانت، ولعل هذا من تفسير قولهم: "الإمبراطوريات لا تموت في عواصمها"؛ إن قُيِّض لها مَن ينهض بإرثها على الوجه الصحيح.

وإن كانت التتمة: "ولكن الإمبراطوريات تموت في مناطق نفوذها" فهذا ليس على إطلاقه؛ ولا يمكن أن تُقاس الدولة العثمانية التي حكمت شرقاً وغرباً باسم الخلافة الإسلامية على الامبراطوريات الاستعمارية القديمة والحديثة؛ فتلك ربطت مستعمراتها القديمة بعجلتها حتى اليوم بمنظمات "الدول الناطقة بالفرنسية" وغيرها، لكنّ مناطق نفوذ العثمانيين يوماً باتت مسرحاً للعابثين الذين دفعوها يوماً للخروج على العثمانيين بدعوى الحرية، ثم نهبوها وملكوا أمرها بدعاوى ما زالت تبيض وتفرّخ؛ فلا عجب أن نجد يوماً بقايا هوى للعثمانيين ينبعث فيقف شيخ من تلك الدول إماماً بالمسلمين عند أسوار آيا صوفيا يدعو بهم لافتتاحها مسجداً، ثم تدور عجلة الأيام وتُعلن آيا صوفيا مسجداً فيخرج شيوخ من تلك الدول "مناطق نفوذ العثمانيين يوماً" فيُفتي بحُرمة افتتاحها لصلاة المسلمين؛ يُوافقون قول أهل الصليب!!

حينما أُعلنت آيا صوفيا مسجداً بعد أكثر من ثمانين عاماً على تحنيطها تحت مسمى "متحف" تسارعت برقيات التهنئة الجماهيرية من أقطار العالم الإسلامي كلها؛ وكأن السلطان محمداً الفاتح يخلع اليومَ (24/تمّوز) أبواب القسطنطينية، ويستلم مفاتيح آيا صوفيا من رهبان اشتراها منهم وأوقفها للمسلمين؛ ولابد من التساؤل عن سرّ التفاعل الجماهيري العريض مع الحدَث؟ ولعل ذلك من توالي الهزائم على امتداد العالم الإسلامي وكثرة الجراح النازفة من ميانمار إلى سورية وفلسطين حتى الصومال؛ فلا شك أن انتصاراً معنوياً كافتتاح آيا صوفيا يعود بالنفوس الممزقة إلى عِزّة الفتح الإسلامي، ومع زحمة قادة مرقوا من الدِّين يتقرّبون لأهل الصليب والأوثان ينهض من بين ركام القادة زعيمٌ يقرأ بالناس القرآن وينطق بهموم المسلمين وأوجاعهم، فيرفع المسلمون شرقاً وغرباً الأكفّ له بالدعاء وكأنه على الحقيقة سلطانٌ في آخر عاصمة للخلافة الإسلامية؛ لاسيما مع تراجع العواصم الدينية والفكرية الإسلامية في البلاد العربية، لتعود إسطنبول كما كانت منذ أكثر من قرن يأوي إليها كل مظلوم ومطرود وخائف وكل صاحب قلم أو فنّ أو صنعة، فتحتضن الجميع وتنهض إسلامبول من جديد بالمسلمين من شتى الأجناس والألسنة والأعراق؛ ولا ينبو عن هذا السياق حينَها أن تصدح مآذن آيا صوفيا بالتكبير.

ولعل أسعدَ الناس بآيا صوفيا مع الأتراك السوريون؛ ليس لأنهم يعيشون مع الأتراك أفراحهم وأتراحهم، ويشاركونهم حياتهم وآمالهم؛ بل لأن رحى الحرب المجنونة تطحنهم منذ سنوات، فدُمرت مساجدهم واستُبيحت ورُفعت فيها رايات طائفية استهزاءً بالدِّين وبمشاعر وتخريباً لهوية البلد، فكيف لا يفرحون بمسجد آيا صوفيا؟ ومنذ سنوات يتنازل المزعوم رئيساً عليهم يوافق كل المحتلين والمرتزقة، حتى قاربَ التنازُل عن البلد كله لأعدائه؛ ثم يرى السوريون زعيماً يتحدى المتكبرين ويصرخ بالسيادة الحقيقية على كل ما يرفرف فوقه علَمه، ويُنجز لبلده ما في رفعته وعزّه واستقلاله، فكلمته وكلمة شعبه واحدة ينهضون معه ويقعد معهم؛ فكيف لا يفرح السوريون بزعيم كأردوغان يصدح بكسر القيود الداخلية والخارجية ويُعيد السيادة لرقعة بقيت مصادرةً محجوبةً عن محبّيها عقوداً مرّ فيها على تركيا زعماء وقادة كثيرون، في زحمة قادة يتنازلون يومياً عن سيادة بلادهم ويبيحون للغرباء ثرواتها وإن جاعت شعوبهم وتلفت!!

قد صرّح الرئيس أردوغان أن صورة العالم ما بعد كورونا لن تكون كما كانت قبله؛ والقائد الحقّ هو الذي يرسم لبلده وشعبه صورة أجمل مما كانت، ويكون قادراً أن يرتقي بوطنه إلى مقام لم يكن يبلغه من قبل، فيُسابق الزمن والمجتمع الدولي ليأخذ ما كان سُلب منه في البرّ والبحر، في السياسة والصناعة والدفاع؛ بل والدِّين والفكر.

فهنيئاً لتركيا وشعبها بمسجد آيا صوفيا الكبير، وهنيئاً للمسلمين والأحرار جميعاً؛ ولعل الله خفّف على المسلمين قسوة زمنٍ اختُصر فيها أعظم المواسم "موسم الحجّ" بأفراد قليلين، وأسعدَهم بفرحة الفتح الجديد لمسجد آيا صوفيا الكبير!

وما أشد تعاسة شعبٍ بزعيمٍ يتهاوى بهم وببلدهم وثرواتهم ومقدساتهم!!