الخميس 04 ابريل 2024
20°اسطنبول
27°أنقرة
31°غازي عنتاب
26°انطاكيا
29°مرسين
20° اسطنبول
أنقرة27°
غازي عنتاب31°
انطاكيا26°
مرسين29°
34.44 ليرة تركية / يورو
40.21 ليرة تركية / جنيه إسترليني
8.78 ليرة تركية / ريال قطري
8.53 ليرة تركية / الريال السعودي
31.98 ليرة تركية / دولار أمريكي
يورو 34.44
جنيه إسترليني 40.21
ريال قطري 8.78
الريال السعودي 8.53
دولار أمريكي 31.98
...

الدكتور فرحان السليم ... ثورة ووفاء حتى الممات

06 مارس 2021، 11:15 ص

مع جدلية المثقف والسلطة، حين يتنازل المثقف – في كثير من الأحيان – عن رسالته لصالح السلطة؛ لاسيما في الأنظمة الشمولية الاستبدادية كما عشناه في سورية مع آل الأسد من الوالد للولد، تأتي مفارقة لا تقلّ عنها خطورة، وهي ما بين المعلّم والمربّي؛ فليس كل معلم مربّياً، إذ لا ينجح كل معلّم أن يكون مربّياً.

هنا يقف كل طالب بعد عقود يستذكر مَن علّموه منذ المدرسة حتى نهاية الجامعة، فلا يجد في ذاكرته إلا أسماء معدودة؛ فأولئك هم المربّون على الحقيقة، لأنهم تركوا في نفسه أثراً عجزت السّنون والنوائب عن محوه.

ومع الثورة السورية باتت جدلية "المثقف والسلطة" ومقارنة "المعلّم والمربّي" أكثر أهمية وإلحاحاً؛ فإن كان يُسكت عن مثقف ساكت قبلها بحكم الصمت العام فلم يعد كذلك وقد كُسر حاجز الخوف وخرج الناس أفواجاً ضد نظام الأسد المستبدّ، وسقط كثيرون عن سُدّة "المربّين" لضحضاح مجرّد "معلّمين"؛ لأنهم خذلوا طلابهم ومَن تعلقوا بهم، فلم يحققوا غايات التربية الحقّ ولم يؤدّوا أمانة الثقافة في وجه السلطة.

هنا أقف بإجلال مع ذكر أستاذنا الدكتور فرحان السَّليم رحمه الله؛ فقد أُوفد في زمن الندرة إلى فرنسا، وعاد مع اللغة الفرنسية بدكتوراه من إحدى أرقى جامعاتها، ليصطدم مع فساد الأسد خلال تنمّره بداية الثمانينيات، فيُحرم من معادلة الشهادة كونه ليس حزبياً، وبعد رفضه تدخل الجامعة لتمرير نجاح بعض الطلبة فُصل منها، بل وألزمه الفاسدون بدفع ما صُرف عليه؛ فاضطر لبيع بيته وسداد ما أُلزم به.

لكنه الحق والصبر والإصرار؛ فلم يهرب ولم يخف، بل صبر وعمل – وهو يحمل دكتوراه ولغة فرنسية – محاسباً لتاجر أخشاب وغيرها، حتى عاد مع بقايا صالحين عبر القضاء ودخل الجامعة مرفوع الرأس أواسط التسعينيات.

لكنّ فساد الأجواء الجامعية في ظل الأسد حكم عليه بالجمود وعدم الترقية لرفضه الانتساب لحزب القائد، ثم تابعوا غضبهم من مواقفه فحقّق معه مسؤول الأمن العسكري في الجامعة؛ وكان واحداً من طلابه!!

وفي حلقة فساد متصلة ولأنها هزلت وبان منها كل قبيح مع البعث والأسد؛ فالطالب الذي هو مسؤول أمن عسكري حقّق مع أستاذه بتهمة الوهابية، ثم مع الزمن نجح في الجامعة وتقدّم زملاءه، ومع خيانة بعض الأكاديميين الذي كتبوا له فصولاً كاملة من رسائله؛ فإن ذاك الأمنيّ مدير مكتب ضابط في مخابرات الأسد صار يحمل (د.)، ولأنها دولة بوليسية صار رئيس قسم ثم مسؤولاً في الجامعة، وبات يجلس في منصة مناقشة الرسائل الجامعية في "سورية الأسد" بعد أن حقّق حتى مع أستاذه!

كنّا في بداية عام 2000 وكنا نرى في الدكتور فرحان ثورة قبل الثورة؛ فهو لا يترك فرصة لنشر الوعي والثقافة الأصيلة إلا ولج منها، ولأنه صاحب نظر ومعرفة فكان يتخيّر من الطلاب مَن يرى فيه الخير والرساليّة فيخلص له النصح والتوجيه.

وحينما عصفت الثورة بأكاديميين كثيرين كانوا كباراً وصغروا لمواقفهم المخزية؛ لم نعجَب أن نجد الدكتور فرحان في مقدمة صفوف المتظاهرين في "بابا عمرو"، وكأنه كان من الثورة على ميعاد، ثم ليضطلع بدوره فيشارك في أداء رسالته ويدير الجناح السياسي في المجلس الثوري لبابا عمرو.

تاركاً الجامعة لينغمس مع طلابه وأهله وأحبابه في العمل الثوري منذ بدايته، ثم ليكون في جملة المهجَّرين قسرياً؛ فيأبَى البقاء في مناطق سيطرة الأسد، ويخرج نحو الأردن ثم السعودية ثم تركيا.

ولارتباطه بالأرض ورسالة التعليم لم يطق الجلوس دون عمل برتبة "لاجئ" في تركيا، إذ رفضته الجامعات لتجاوزه الستّين؛ فعاد إلى سورية واستقرّ في إدلب ليعود للتعليم في سورية الحرّة التي قضى حياته يترقّبها، دون أن يستنكف عن عمل يخدم فيه أهله، ولا رأى يوماً نفسه بشهاداته وإنجازاته كما يفعل كثيرون ممن هم دونه بمراحل؛ فعملَ في معهد إعداد المدرّسين التابع لوزارة التربية الحرّة في دارة عزة في ريف حلب الغربي عام 2014، وبعد تحرير إدلب وانطلاق جامعتها  انتقل إلى جامعة إدلب الحرة وباشر في خدمته في الشهر العاشر 2015، وما تركها إلا بعد أن اشتدّ عليه مرض السرطان، فأنهى خدمته في الجامعة بسبب وضعه الصحي.

ولفرط تمسّكه بسورية بقي متنقلاً بين ريف إدلب وتركيا للعلاج نحو عامَين؛ مع قدرته على الاستقرار في تركيا لتوفّر بيت ابنته، فما امتنع عن التنقل حتى أعجزه المرض، إلى أن توفاه الله في 21 آذار 2019.

كان الدكتور فرحان السليم صورةً للأكاديمي الذي يطمح كل طالب أن يجده؛ ففي العلم نخفض رؤوسنا لتمكّنه وتبحّره وجدّيّته، وفي الثقافة كان يعزّ أن تجد مشتغلاً في النحو يخرج عن جموده على نحو ما كان عنده.

ولعل الأهمّ من ذلك وفاؤه لطلابه، وليس مع أصحابه وأحبابه فحسب؛ فقد جمعتْه الأيام مع طالب له بعد عشرين سنة، فلما استقبله ذكّره الدكتور بموقف أمام أهل المجلس يمتدحه به مما حفظه في الجامعة وصار يُشير إلى تلميذه بافتخار.

وكان يتفقد إخوانه وطلابه المقرّبين يزورهم في بيوتهم، ولا يهدأ عن جلسات التوعية والنصح بين عامة الناس؛ ويميل للتوعية أكثر من الوعظ يرتقي بالهمم إلى مستوى أحداث الأمّة ونوائبها قبل الثورة بسنوات.

ولا أنسى أنني اتصلت به يوماً أعتذر إليه أنني سأتأخر عن زيارته بسبب سفري لمناقشة الدكتوراه يوم الجمعة، وكان مرض السرطان قد أقعده عن الحركة؛ فما خرجت من المناقشة وسلكت طريق العودة إلا وهو يتصل، وبصوت حنون مهدود بالمرض ولكن يشدّه الوفاء على الكلام: "أخبرتَني أنك ستناقش اليوم؛ فأخبرني كيف كانت المناقشة؟"

وكان له أخٌ جارٌ يزوره في مرضه الأخير؛ فحدّثني أنه كان يضجر منه أحياناً في الجلسة لشدّة ثنائه على طلابه، لاسيما ممن ترقّى وبلغ مبلغاً يُشار إليه فيه.

 فشعرت أنه ما زال يربّينا على الوفاء حتى وهو في مرض الوفاة.

وحينما سُئل عن الثورة السورية أجاب الدكتور فرحان: "الثورة السورية أعظم ثورة في التاريخ، ولكن لم يُقيَّض لها القيادة التي تليق بها، والشعب السوري أكبر شعب ضحَّى في سبيل حريته، وغايته نبيلة؛ الحرية والعيش الكريم، ويواجه أعتى نظام استبدادي عرفتْه البشرية، وكل قوى الشر في العالم تألّبت على هذه الثورة اليتيمة التي تخلى عنه الجميع، وما يزال الشعب السوري المغوار ماضياً في ثورته لا يحيد عنها قيد أنملة رغم المحن والمصاعب".

فإن كان أستاذنا المِفضال مُقِلّاً في الإصدارات العلمية فلأنّ سيف الاستبداد آذاه في زهرة إنتاجه، وحُرم العمل الأكاديمي لسنوات بسبب نزاهته ومواقفه المشرّفة؛ وصُدّر مَن آذَوه وحقّقوا معه من عبيد البعث والأسد. وإن كان مُقِلّاً في العلم فهو مُكثِر في النخوة والوفاء وبطل متقدّم في ثورة الحرية والكرامة.

ومن الوفاء للدكتور فرحان السليم وأمثاله أنْ نحفظ لهم أقدارهم، وأن ننشر مآثرهم؛ فهم من ثورة الحرية والكرامة، وهم من وجهها الأبيض الناصع؛ فقد كان بحقٍّ على ثورة ووفاء حتى الممات.