السبت 04 مايو 2024
20°اسطنبول
27°أنقرة
31°غازي عنتاب
26°انطاكيا
29°مرسين
20° اسطنبول
أنقرة27°
غازي عنتاب31°
انطاكيا26°
مرسين29°
34.92 ليرة تركية / يورو
40.78 ليرة تركية / جنيه إسترليني
8.89 ليرة تركية / ريال قطري
8.62 ليرة تركية / الريال السعودي
32.35 ليرة تركية / دولار أمريكي
يورو 34.92
جنيه إسترليني 40.78
ريال قطري 8.89
الريال السعودي 8.62
دولار أمريكي 32.35
...

شريعتي ... المحافظ والثوري في آن واحد

07 ديسمبر 2019، 12:38 م

لم أكن أتوقع يوما أن أكتب في الثناء على رجل ولد وعاش وانتسب إلى إيران القرن العشرين ولو كان ذلك نتيجة قدر لم يختره ويمكنكم أن تتفهموا موقفي بسهولة كوني عربياً عارفا بتاريخ المكائد الإيرانية بحقنا كعرب، وسورياً يفتخر بثورته ومطالبها في الحرية والعدالة التي تحول إيران دون تحقيقها من خلال دعمها اللامتناهي لنظام الإجرام في دمشق ولكن ولقوله تعالى " ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه " فإنه من الإنصاف القول بأن فكر هذا الرجل وحركته التنويرية مثيرة للإعجاب وتستحق كل احترام وتقدير .. لقد أثبت مرة أخرى صحة القاعدة التي لطالما أمنت بها شخصياً وهي أن التعميم لغة الأغبياء.

ولد علي محمد تقي شريعتي في عام 1933 م في اقليم خراسان شمالي شرقي إيران ولسنا هنا في صدد التعريف بسيرة حياة الرجل التي يمكنكم الوصول إليها بسهولة من خلال الفضاء المعلوماتي ولكننا نحب أن نلفت الأنظار إلى أهم الخصائص الفكرية لهذا المفكر فقد شكل طفرة فكرية وفلسفية في التاريخ الفكري والثقافي الفارسي خصوصا والشيعي عموماً.

عيش المبادئ صعب ورث علي شريعتي عن أبيه محمد تقي الدين الخطاب الديني التجديدي المحارب للطقوس والتقاليد البالية و الخرافات السائدة واعتنق منذ فتوته الفكر التحرري النهضوي المعادي للاستعمار وسارت حياته وفق المبادئ التي أمن بها ولذلك فقد مرت صعبة وعسيرة، فقد نشط في حركة محمد مصدق واعتقل مرتين لهذا السبب واستمر نشاطه وحركته المعهودة بعد ابتعاثه للدراسة في فرنسا ليعتقل مرة أخرى بعد مشاركته في تظاهرة تضامنية مع باتريس لومومبا أول رئيس وزراء منتخب للكونغو والذي اغتالته المخابرات البلجيكية ، هذا وبالإضافة لدعمه الحراك التحرري الثوري في الجزائر حينها.

دعا إلى النشاط الحركي والعملي قولاً وكتابة وطبق ما دعا إليه عملاً وفعلاً وأصبح نموذجاً تطبيقيا وحياً لعنوان أحد مؤلفاته " مسؤولية المثقف " فمنذ عودته من فرنسا أسس حسينية إرشاد لتربية الشباب ورغم الرقابة المفروضة عليها من أجهزة مخابرات الشاه إلا أنها أصبحت منبراً لأفكاره ودعوته التي انتشر صداها بين الأجيال الناشئة في إيران والتي أصبحت فيما بعد وقودا للثورة فاستحق بذلك عن جدارة لقب " معلم الثورة ".

قبسات واقتباسات من فكره تكاد تتحدد ملامح منهجه وطريقته من خلال فهم أصله الأصولي والربط بين موروثه وقناعاته المحلية والفكر الغربي الذي عاصره ونهل منه، فهو كغيره ممن خاضت سفينتهم في بحر الفكر الغربي الحداثي فلا بد أن يعود منه بمعين ويتأثر وإن اختلفت أشكال هذا التأثر بين المغتربين الذين افترقوا بالنظرة والتقييم للغرب وعلومه ومدنيته، فمنهم من عاد إلى بلاده معاد لكل ما يحمله مجتمعه من عقائد وشرائع وقيم وسلوكيات معتقدا بأنه لا خلاص إلا بإجراء تغيير شامل وجذري وجعل الشرق غربا خالصا وعلى النقيض من التيار الأول منهم من عاد مستمسكاً أكثر وأكثر بالمعتقدات المحلية والتقاليد الموروثة معتبراً أن أي فكر غربي غريب على الأمة وحضارتها ولا يصلح لها، وفي أوسط الطرفين فقد نحت قلة قليلة منحى الوسطية والاعتدال (وشريعتي منهم) فعاد متصالحاً مع واقعه محاولا التوفيق بين هذا وذاك من غير انسلاخ ولا انغلاق في آن واحد.

وبهذا فقد كان شريعتي يرى التنوع الإنساني ويؤمن بشمولية منتجه الفكري الحضاري فقد قال في وصف نفسه وما أروع ما قال: " أنا سني المذهب، صوفي المشرب، بوذي ذو نزعة وجودية، شيوعي ذو نزعة دينية، مغترب ذو نزعة رجعية، واقعي ذو نزعة خيالية، شيعي ذو نزعة وهابية، وغير ذلك اللهمّ زد وبارك ".

وفي نفس الوقت يعتز بالإسلام كمعتقد ودين وحضارة ويرى إمكانية إصلاح أوضاع المسلمين من الداخل وبالداخل نفسه وهذا بالعودة لما يسميه "الإسلام الثوري" بحقيقته وروحه الأولى قبل أن تلوثه الإضافات البشرية فيما بعد والمجتمعة تحت مسمى (التراث) ومن هنا فقد كان علي شريعتي وحدويا لا مذهبيا فهو لم يكن يتبنى التشيع كقضية - على شيعيته - ولا التسنن ولكن كان يتبنى الإسلام ككل ولطالما انتقد الصراع العبثي بين الشيعة والسنة والذي أرجع سببه إلى ما يسميه "التشيع الصفوي" و"التسنن الأموي" وأنه لا حل إلا بالعودة لـ" التشيع العلوي" و"التسنن المحمدي". ولم يتعالى شخصه فوق مذهبه فقط بل فوق انتمائه العرقي والإثني فانتقد وبشدة النزعة الشعوبية لدى النخب الفارسية ورجالات الدين المحليين، وعليه فحري بنا أن نقدر ونحترم آراء هذا الرجل وأحكامه فمن نقد نفسه ووسطه ومحيطه ومذهبه قبل نقد الآخر كانت شهادة حسن سلوك فكري وفلسفي له لا عليه.

النباهة والاستحمار لعل علي شريعتي قد حاز على براءة اختراع مصطلح الاستحمار في عنوان كتابه " النباهة والاستحمار" والذي لفت فيه النظر إلى طرق تعطيل عقول الجماهير وتوجيهها وتضليل الشعوب بإلهائها بالتوافه والصغائر في وقت يجب فيه أن تعنى بالمشاكل الأساسية والقضايا المصيرية وأوضح كيفية استخدام أقدس المقدسات وهو الدين في سبيل ذلك وتحويله إلى مخدر قوي وفعال في إسكات الأفواه وتشتيت العقول لأجل خدمة السلطة الظالمة والاستعمار الغير مباشر وكأنه كان يجيب عن سؤال : متى يكون ماركس محقا في قوله " الدين أفيون الشعوب" وكيف نجعله مخطئا ؟!؟!

فقد حاول شريعتي في هذا المؤلف أن يحول الطاقة الكامنة في الدين ونصوصه إلى طاقة حركية وذلك بتشديده على سبل وأسباب النصر العملية في القرآن وضرورة الأخذ بأسباب ومتطلبات القوة والنصر والتمكين في كل عصر ومكان بما يوافقه ويلائمه ومن ذلك قوله : " أن الأرض يرثها من عبادي الصالحون ، الصالحون قولا والصالحون فعلا والصالحون فكرا ".

دين ضد الدين في عنوان هذا الكتاب ما يغنيك عن محتواه فما إن تقرأه حتى يتبادر إلى الذهن تصور عن دين أصلي مختطف حل محله دين مصطنع ومغاير للأصل يرتدي نفس الرداء لكنه يخفي كل شيء ضد الأول فوصف في هذا الكتاب عملية الانقلاب المفاهيمي الداخلي للدين والمتدينين مع الزمن وتحول الدين من طاقة وعامل إيجابي فاعل ومؤثر في تحقيق خلافة الإنسان واستعماره الأرض يما يرضي الله وتحقيق المطالب البشرية إلى عامل سلبي هدام يخدر الشعوب ويجعلها تغط في سبات عميق خانعة لكل قادم من الملوك والحكام الظلمة راضية بالظلم كقضاء وقدر غير معترضة على أي فساد إفساد بحجة طاعة ولي الأمر.

وأيضا فقد هاجم شريعتي طبقة رجال الدين والمؤسسة الدينية الخاضعة للشاه وقتها وأثار غضبهم معتبرا أن الدين لا يحتكر بيد طبقة أو فئة معينة من الناس وأن دين الله لعباد الله جميعا ولا واسطة بينهما رافضا فكرة الكهنوت الديني جملة وتفصيلا حيث اعتبرهم العامل الأساسي في عملية تهجين الدين وتسييسه بما يتناسب مع هوى السلطان بالفتاوى والخطب المأجورة وبما يخدم العدو وذلك بتعطيل مقدرات وكفاءات الشعوب وتحطيم قابلية الإبداع لديهم، كما سلط الضوء على دورهم في تفريق كلمة الأمة من خلال دعاوى التكفير وإقصاء المخالفين في الرأي والاجتهاد واتهامهم بالابتداع ورميهم بتهم الضلال والفسق ، وبمقاربة أدبية رائعة بانت عن منطق حكيم فقال فيهم : " إن إسلامنا بدون رجال الدين هؤلاء سيرجع أصيلاً سليما كما هو اقتصادنا بدون نفط ".

انتقد علي شريعتي وبشدة الصور والتصورات النمطية التي كرست عبر العصور للدين والمتدينين وما يرافقها من نفاق اجتماعي ومظاهر مضلة وخادعة مستخدما الأدب الساخر الهادف في وصف مثل هذه الظواهر فيقول :"أشفق على الفتاة حين تسوء سمعتها فهي لا تستطيع تربية لحيتها لتمحو تلك الصورة ".

بالطبع لم يرق فكره ونقده وشروحاته لا للسلطة وأجهزتها من جهة ولا للعمائم والمعممين من جهة ثانية فقد كان حيزه الفكري والفلسفي أكبر من حدود السلطة المرسومة ومن حوزات الملالي المغلقة فاتهموه بأنه "شيوعي متخفي" مع أنه كان "إسلاميا رجعيا" بنظر اليسارين والشيوعيين وشأن علي شريعتي في هذا شأن كل مفكر حر متحرر من أي تبعية مستقل برأيه واجتهاده "لا يضحي بالحقيقة من اجل المصلحة" كما يصف نفسه وبالتالي يستحيل ويمتنع تصنيفه.

دعوة ودعاء حتى دعاء علي شريعتي لم يكن دعاء كلاسيكيا تقليديا فقد دعا لكل فرقة وفئة بما يلزمها حقيقة مدركا لما ينقصها وتحتاجه فما أجمل دعاؤه حين يقول: " يا رب.. هب علماءنا المسؤولية، وعوامنا العلم، ومتدينينا الدين، ومؤمنينا النور، ومفكرينا الإيمان، ومتعصبينا الفهم، والمتفهمين منا التعصب؛ والغافلين منا اليقظة، واليقظين منا الإرادة؛ والقاعدين منا القيام، والصامتين منا الصراخ، وكتّابنا الإلتزام، وفنانينا الألم، وشعراءنا الشعور، ومبلغينا الحقيقة، وحسادنا الشفاء، والمغترّين منا الإنصاف، والمفحشين منا الأدب، ولفرقنا التوحد، ولأمواتنا الحياة، وهب كل شعبنا الهمة والعزم، والتهيؤ للفداء والخلاص والعزة ".

ونحن بدورنا ندعو لعلي شريعتي بالرحمة والمغفرة فقد وجد ميتاً في شقته بلندن عام 1977 بعد نفيه إلى هناك بثلاث أسابيع وفارق الدنيا عن 43 عاما ومع أن التقرير للطبي الذي صدر أفاد أن سبب الوفاة نوبة قلبية حادة ولكن الرأي السائد أنه قتل على يد جهاز مخابرات الشاه (السافاك)، لم يعش الرجل عمرا طويلا غير أنه عاش عمرا عريضا ، عريضا بالإنجازات والمؤلفات والفكر والنشاط والدعوة والنضال ، قتل معلم الثورة قبل أن يشهد تحقق الثورة التي دعا إليها بعامين ، ولعل ذلك كان خيرا له من أن يشهد ما بعدها و يرى تسلق العمائم والملالي على أكتاف الثورة وإمساكهم بزمام السلطة والكوارث التي جلبها هؤلاء على الشعب الإيراني خاصة وشعوب المنطقة بشكل عام وهو الذي لطالما انتقدهم وهاجمهم وحذر منهم ومن ركوب صهوة الدين في الوصول إلى الحكم والحيلولة دون تحقيق تطلعات الشعوب بالحرية...

على كل حال كان له مؤيدوه وناقدوه أيضا ونسبت له بعض الأراء التي قد نخالفه فيها وهذا طبيعي ولكن بما أن الحكمة ضالتنا نحن معشر المؤمنين وجب علينا أن نأخذها من أي مصدر ومنبع ونترك ما لا يعنينا ولا يفيدنا.