الأربعاء 01 مايو 2024
20°اسطنبول
27°أنقرة
31°غازي عنتاب
26°انطاكيا
29°مرسين
20° اسطنبول
أنقرة27°
غازي عنتاب31°
انطاكيا26°
مرسين29°
34.70 ليرة تركية / يورو
40.57 ليرة تركية / جنيه إسترليني
8.92 ليرة تركية / ريال قطري
8.66 ليرة تركية / الريال السعودي
32.49 ليرة تركية / دولار أمريكي
يورو 34.70
جنيه إسترليني 40.57
ريال قطري 8.92
الريال السعودي 8.66
دولار أمريكي 32.49
...

من سمات الخوارج ونزعاتهم في العصر الحديث

25 فبراير 2020، 11:52 ص

بدأت سمات الخوارج ونزعاتهم تظهر بين طوائف من أبناء المسلمين اليوم، وبأشكال ومظاهر مختلفة من جماعات وأفراد ودعوات وحركات واتجاهات، وشعارات، ومناهج وأساليب ومواقف وتصرفات، ونزعات فردية وجماعية، ونحو ذلك من أمور تنذر بخطر، وتنبئ عن بدايات ظهور البذور العقدية والفكرية والسلوكية للخوارج.

ومن هذه السمات والمظاهر: التشدد في الدين على النفس، والتعسير على الآخرين، والتعالم، والغرور، وتصدر الأحداث، وقلة الصبر، وضعف الحكمة، والاستبداد بالرأي، وتجهيل الآخرين، والطعن في العلماء، وسوء الظن فيهم، وتحقيرهم، والتنفير منهم، والحدية في التعامل مع الآخرين، وصعوبة مد جسور التفاهم معهم، وقابلية الانشطار والتفرق، وسهولة اتهام الآخرين، وصعوبة التجمع والتوحد، والتكفير وغير ذلك من مظاهر الغلو التي ساهم في ظهورها مجموعة من الأسباب؛ منها:

1 ـ الجهل بالعلوم الشرعية:

فالمتأمل لواقع أكثر أصحاب التوجهات التي يميل أصحابها إلى سمات الخوارج يجد أنهم يتميَّزون بالجهل وضعف الفقه في الدين، وضحالة الحصيلة في العلوم الشرعية، فحين يتصدرون للأمور الكبار والمصالح العظمى يكثر منهم التخبط والخلط والأحكام المتسرعة والمواقف المتشنجة، بسبب عدم قدرتهم على استيعاب فقه المصالح والمفاسد، والعلم بمراتبها، فوق جهلهم باحاد النصوص الحاكمة على القضايا المعينة، إذ ليست المنكرات العامة المتعلقة بالسياسة الشرعية؛ وهي في الغالب سبب الفتن؛ كمسائل الطهارة والصلاة والحج والأحوال الشخصية يقوم فيها الحق ـ غالباً ـ على الأدلة التفصيلية، بل قيام العلم في ذلك على أسس منها:

أ ـ الأدلة الشرعية العامة، والقواعد، التي يدخل تحتها أمور كثيرة.

ب ـ مقاصد الشريعة.

ج ـ الموازنة بين المصالح والمفاسد.

د ـ الأدلة التفصيلية.

ولا يمكن للعوام، بل صغار العلم فهم القضايا الكلية العامة، وإن كان يمكنهم فهم النصوص الجزئية، وكذلك فهم مقاصد الشريعة لا يكون إلا باستقراء مجمل النصوص، وتصرفات الشارع، ففقه المقاصد فقه عزيز، لا يناله كل أحد، بل لا يصل إليه إلا من ارتقى في مدارج العلم، واطلع على واقع الحال، وقلّب النظر في الاحتمالات التي يظن حدوثها، والموازنة بين المصالح والمفاسد تحتاج إلى فهم للشريعة ومقاصدها، وفهم للواقع ومراتب المفاسد والمصالح، وهذا كله لا يكون إلا للعلماء.

إن تصدُّر العامة أنصاف العلماء الذين لا يفهمون كتاب الله وسنة رسوله ﷺ يشتت المسلمين ويفرق وحدتهم، لأن العوام لا يتصور اتفاقهم على أمر إذا لم يكن لهم سراة يصدرون عن رأيهم، ولذلك كان الرد إلى أهل الحل والعقد.

2 ـ القراءة من الكتب بدون معلم:

ومن الأسباب التي أسهمت في تشكيل فكر الغلو، طلب العلم من غير بابه، والإقبال بِنَهَمٍ على كتب العلم، دون معلم يعين ولا موجه يرشد، وأخذ الطلاب يستخرجون الأحكام في المسائل العضال قبل أن ترسخ أقدامهم في العلم بالكتاب والسنة، فزلَّت بهم القدم، وقد حدث هذا من نوعين من الشباب:

* شباب عاش في السجون، ولقى المحن والتعذيب.

* وشباب لم يدخلوا السجون، ولم يتعرضوا لمحن، وكانت النتيجة حصاداً مراً من البلبلة الفكرية، وبلاء الغلو، شتت شمل المسلمين المشتت، وزاد تمزيقهم تمزيقاً، وقد حدث هذا لأسباب منها:

أ ـ الإعراض عن العلماء: ولقد سلك الغلاة هذا المنهج الخاطئ بسبب وقوع بعض الانحرافات ممن ينتسبون للعلم من أهل الهوى، فبدؤوا بسحب الثقة في أهل العلم، وفي أقوالهم ولو كانت حقاً، ثم غلب على هؤلاء سوء الظن، فوسعوا دائرة الإعراض، وأدخلوا فيها العلماء العاملين الصادقين، وسحبوا الثقة فيهم أيضاً، وكلما خالفهم عالم مجاهد في رأي رأوه، أو مالوا إليه، سحبوا الثقة فيه وأعرضوا عنه، وهنا يكمن الخطر ويوجد الشطط، قال أحد العلماء الذين حاوروا الشباب أثناء لقائه بهم: الذي أخشاه أن فقد الثقة بالعلماء سيحملكم على أحد الأمرين أو الأمرين معاً، وهما: الاجتهاد من غير استعداد كافٍ، ومعرفة تؤهل لذلك، أو العودة للكتب والأخذ عنها دون الاستعانة بأحد، وفي الاثنين من المخاطر ما فيهما.

قال أحد الشباب: لقد وقعنا في الاثنين معاً.

ب ـ الغلو في ذم التقليد:

لقد ذم القرآن الكريم التقليد وأهله، وحذر السلف من هذا المسلك، قال تعالى:  ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ  ﴾ [البقرة: 170].

ومن أقوال الأئمة قول الشافعي: مثل الذي يطلب العلم بلا حجة كمثل حاطب ليل، يحمل حزمة حطب وفيه أفعى تلدغه وهو لا يدري.

وقال أحمد: لا تقلدني، ولا تقلد مالكاً ولا الثوري ولا الأوزاعي، وخذ من حيث أخذوا.

وقال أبو يوسف: لا يحل لأحد أن يقول مقالتنا حتى يعلم من أين قلنا.

وقرأ الشباب هذا، وقرؤوا أن المقلد مع العالم كالصبي في حجر أمه، وأن لا فرق بين المقلد والبهيمة، فأنِفوا من تقليد غيرهم من العلماء، وبالغوا في النفور من التقليد وذمه، فظنوا أن الاهتداء بآراء السابقين من الصحابة والتابعين والعلماء الصادقين، والاستفادة من مناهجهم، والاسترشاد بفتاويهم المدعمة بأدلة، ظنوا أن ذلك من التقليد المذموم، فأباحوا لأنفسهم إصدار الفتاوى ولم يتأهَّلوا لها بعد، وأكبوا على الكتب يستخرجون منها الأحكام، ويستنبطون الآراء العجاب، وتوغلوا في هذا الميدان وهم ليسوا فرسانه، فشطوا وتجاوزوا الحدود.

إن هؤلاء الشباب لم يحسنوا تمييز الأمور وتفصيلها، ولم يعرفوا صحيح الأقوال من سقيمها، ولم يجيدوا إنزال النصوص منازلها، فعمَّموا حيث لا تعميم، وأعرضوا حيث يجب الإقبال، وأقدموا حيث يجب الإحجام، فالنصوص التي تذم التقليد ليست عامة، إنما لها حالات تتنزل عليها.

فابن عبد البر بعد أن ذكر الآثار المروية في ذم التقليد قال في نهاية الباب: وهذا كله لغير العامة، فإن العامة لا بد لها من تقليد علمائها عند النازلة تنزل بها، لأنها لا تتبين موقع الحجة ولا تقبل بعدم الفهم إلى علم ذلك؛ لأن العلم درجات لا سبيل منها إلى أعلاها إلا بنيل أسفلها، وهذا هو الحائل بين العامة وبين طلب الحجة والله علم. ولم تختلف العلماء أن العامة عليها تقليد علمائها، وأنهم المرادون بقول الله عز وجل:  ﴿ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ  ﴾ [الأنبياء: 7]... فكذلك من لا علم له ولا بصر؛ بمعنى ما يدين به لا بد له من تقليد عالمه، وكذلك لم يختلف العلماء أن العامة لا يجوز لها الفتيا؛ وذلك والله أعلم لجهلها بالمعاني التي يجوز منها التحليل والتحريم والقول في العلم.

وعامة هؤلاء الشباب عوام في علوم الشريعة ولوازمها، وأنِفوا من سؤال العلماء واستفسارهم، فكانت النتيجة حصاداً مريراً من الفوضى الفكرية.

ج ـ التطبيق الخاطئ لكلمات صدق:

إن هذه افة خطيرة، من اتقاها نجا، فمشكلة من وقع في غلو الخوارج اليوم وأمس، ليست فيما يستدلون به، ولكن في تطبيق ما يستدلون به على واقعه ومراده، فعندما انقلب الخوارج على أمير المؤمنين علي ورمَوه بالكفر.. وقالوا: لا حكم إلا لله، فقال: كلمة حق أريد بها باطل، وبعض أبناء العصر الحديث وقعوا فيما وقع فيه غيرهم، حيث أساؤوا تطبيق كلمات صدق وعدل، فكانت النتيجة اجتراء على الأحكام، والخروج بآراء حائدة عن الاعتدال، ومن هذه الكلمات على سبيل المثال:

* التقليد مذموم:

هذه كلمة حق دل عليها القرآن والسنة، ونهى عن التقليد الأئمة العلماء الأفاضل، وهناك أمور هامة ينبغي التنبيه عليها هنا لنضع الكلمة في واقعها المراد:

ـ إن التقليد الباطل المذموم هو: قبول قول الغير بلا حجة.

ـ إن التقليد مذموم في حق القادر على الاجتهاد، جائز في حق العاجز عن الاجتهاد.

ـ قراءة كتب العلماء السابقين والاستفادة من آرائهم بلا تعصب ليس من التقليد المذموم  بل ينبغي لطالب العلم أن يعرف ما قاله السابقون في المسألة قبل أن يحكم فيها ليسترشد بآرائهم وفهمهم.

قال عطاء: لا ينبغي لأحد أن يفتي الناس حتى يكون عالماً باختلاف الناس، فإنه إن لم يكن كذلك رد من العلم ما هو أوثق من الذي في يديه. وقال قتادة: من لم يعرف الاختلاف لم يشم الفقه بأنفه. وقال يحيى بن سلام: لا ينبغي لمن لا يعرف الاختلاف أن يفتي، ولا يجوز لمن لا يعلم الأقاويل أن يقول: هذا أحب إلي.

لكن بعض أبناء العصر الحديث أخطؤوا في تطبيق قاعدة عدم جواز التقليد، فحملوا على العوام والعلماء على السواء، ولم يفرقوا بين القادر والعاجز، ولا بين الأصول والفروع، ثم ماذا؟ الإعراض عن أقوال العلماء، بل بلغ الحد ببعضهم إلى تسفيه الآراء  وطرح لمناهجهم؛ لأن هذا تقليد مذموم، ثم اجتراء على الفتوى، واستخراج الأحكام مباشرة من القرآن والسنة دون إلمام بالعلوم التي تيسر لهم ذلك.

* هم رجال ونحن رجال:

كلمة رائعة أعجبت بعض أبناء العصر، لأن فيها اعتداد بالنفس، وأنفة في الانقياد للغير  وهذا ما تميل إليه بعض نفوس الناس، هذه الكلمة قالها إمام فقيه هو أبو حنيفة ـ رحمه الله ـ، لكن بعض الناس نسوا قائلها وخصائصه، ومناسبتها، وانطلقوا يخطفون الأحكام خطفاً بمجرد قراءة الآية أو الحديث، وقل وقوفهم عند شرح وفهم الأئمة والعلماء للآيات والأحاديث، ولا مانع من إهدارها عندهم، فـإذا قيل لهؤلاء الناس: ماذا تفعلون؟ اصبروا وتريَّثوا، وتأنّوا في أحكامهم، وانظروا أولاً إلى فهم علمائهم؛ قالوا: هم رجال ونحن رجال، نعم أنتم متساوون من حيث البنية الجسدية، والطباع البشرية، أتـدرون من صاحب هـذه العبارة؟ وما مناسبتها؟ إنـه إمام عالم فقيه منَّ الله عليه بفهم ثاقب، وعلم غزير، وتقوى القلب، ولـقد قالها في معرض بيـان أصولـه حيث قال: إذا كـان القرآن أو السنـة فأقدِّمهما، إذا كان قول الصحابي فلا أخرج عنـه، وإذا كان قول تابعي، فهم رجال ونحن رجـال، فينبغي أن يعلم موضع الـقول ومناسبته حتى لا نشرد في التطبيق، نعم هم رجال علماء مجتهدون، فهل أنتم كذلك؟!

* منهج الصحابة: التلقي المباشر من القرآن والسنة:

قام بعض أبناء العصر يحددون منهج الصحابة الكرام، بعد أن اندرس في الأنام، وأقبلوا على القرآن والسنة لاستخراج الأحكام، وأعرضوا عن الاستنارة بفهم علماء الإسلام، وقالوا: يكفينا القرآن والسنة، ولا حجة لنا بأفهام الأموات، فهما النبع الصافي فلا نكدره بشيء، وهنا أخطأت رميتهم، وطاش سهمهم، لأن التلقي المباشر، والتعامل المباشر مع القرآن والسنة له حدود وقيود، فلكل مسلم أن يتعامل مع القرآن والسنة مباشرة للتعرف على أصول العقائد والأخلاق، والعظات، والعبر الجلية، فهذه أمور قد جلاَّها الله سبحانه وتعالى، وبيَّنها أتم بيان، بحيث لا يجد المرء عسراً في فهمها ما دام يعرف لغة القرآن.

أما التعرف على دقائق الأمور في العقائد والأحكام، فدائرته تضيق عن سابقه لتسع أصحاب الكفاءة والقدرة وحدهم، أولئك الذين تزوَّدوا بعلوم أوسع من اللغة والأصول والحديث.. تمكنهم من حسن الفهم، ودقة الاستنباط، وتمنعهم من الشطط عند المتشابهات، والأمور الخفية، وعلى أساس هذه التفرقة الواعية سار الصحابة الكرام، فقد كانت تنزل بهم المسائل، وتعرض لهم الأمور، فإن كانت من القسم الأول عرفوها بكل يسر وسهولة، وإن كانت من القسم الثاني لم يتجرؤوا حتى يسألوا علماءهم وفقهاءهم، وهذا المنهج هو الذي ينبغي اتباعه، فهو منهج العقل والحكمة الذي يحمي من الجمود، ويقي من الفوضى والبلبلة.

إن تفقه بعضهم بدون معلم قد نتج عنه آثار سيئة ومخاطر جسيمة، من أهمها: نبذ تراث السلف من العلوم والفنون المختلفة، التطاول على العلماء، الاتجاه الظاهري في فهم النصوص، التجرؤ على الفتيا، أفكار غالية.

ولقد علمنا الإسلام أن للعلم أبواباً كما أن له آداباً، والسعيد من طرقه من أبوابه، وتحلَّى بآدابه، فما علمنا على مدار التاريخ أن أحداً أتى مباشرة إلى القرآن والسنة، وأخذ يعمل فكره ويستنبط الأحكام في أولى خطواته، ويؤخر النظر في أقوال من سبق أو يعرض عنها، ما علمنا هذا عن أحد، اللهم إلا الخوارج الأعراب البدو الجهال المجردين من الفقه، والخالين من الفقهاء، الخوارج ومن حذا حذوهم.

ولقد كثر زجر العلماء عن تلقي العلم من الكتب مباشرة دون الاستنارة بآراء وأفهام أهل العلم، لأن هذا باب إلى التحريف والتصحيف، وتبديل الأحكام والقول على الله بلا علم  وتحليل الحرام، وتحريم الحلال، قال ابن جماعة وهو يذكر آداب طالب العلم التي أولها الاستخارة في اختيار الشيخ الذي يأخذ العلم عنه، ويكتسب الأخلاق منه: وليجتهد على أن يكون الشيخ ممن له على العلوم الشرعية تمام الاطلاع، وله مع من يوثق به من مشائخ عصره كثرة بحث وطول اجتماع، لا ممن أخذ عن بطون الأوراق ولم يعرف بصحبة المشايخ الحذاق. قال الشافعي ـ رضي الله عنه ـ: من تفقه من بطون الكتب ضيع الأحكام، وكان بعضهم يقول: من أعظم البلية الصحيفة، أي: الذين تعلموا من الصحف، ولله در القائل:

مَنْ يَأْخُذِ العِلْمَ عَنْ َشَيْخٍ مُشَافَهَةً                  يَكُنِ الزَّيْغُ والتَّصْحِيفُ فِي حَرَمِ

وَمَنْ يَكُنْ آخِذاً لِلْعِلْمِ مِنْ صُحُفٍ                 فَعِلْمُهُ عِنْدَ أَهْلِ العِلْمِ كَالعَدَمِ

وقال علماء السلف: لا تقرؤوا القرآن على المصحفيين، ولا تأخذوا العلم من الصحفيين. وقال أبو زرعة: لا يفتي الناس صحفي، ولا يقرئهم مصحفي، وقال تعالى:  ﴿ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ  ﴾ [الأنبياء: 7].

وقد أنكر الله على من يبادر إلى الأمور قبل تحققها فيخبر بها ويفشيها وينشرها، وقد لا يكون لها صحة، وليس معنى هذا أن نمنع الناس أن يدرسوا ويتعلموا فطلب العلم فريضة، وهو مطلوب من المهد إلى اللحد، لكن نقول: إنهم مهما درسوا، فسيظلون في حاجة إلى أهل الاختصاص، فإنه للعلم الشرعي أدوات لم يتوفروا على تحصيلها، وأصولاً لم يتمرَّسوا بمعرفتها، واستيعابها، وفروعاً ومكملات لم تسعفهم أوقاتهم ولا أعمالهم أن يتفرغوا لها، فلا جراءة وانطلاقة مندفعة غير منضبطة، ولا كسل وخمول وتجميد للفكر والنظر وحظر للبحث وحجر للعقل، إنما نريد جداً وسعياً مع التأني والتثبت والتروي والتأكد، والسؤال عما أشكل، وخير الأمور أوسطها.

3 ـ تخلِّي كثير من العلماء عن القيام بواجبهم:

العلماء هم ورثة الأنبياء، ولذلك ينبغي أن يكونوا هم أصحاب القيادة والتوجيه في المجتمع، وعليهم أن يفرضوا وجودهم الأدبي والعلمي والمرجعي بين الناس، بأخلاقهم وجهدهم وعلمهم، وعليهم أن يتحركوا بهذا الدين وبالعلم الذي يعلمونه من هذا الدين لصياغة المجتمع صياغة صحيحة، ووضع كل من الحاكم والمحكوم في وضعه الصحيح  بردِّ الحاكم إلى الالتزام بشريعة الله، فيزول من ثم ما هو واقع في المجتمع من ظلم سياسي واجتماعي واقتصادي، وردِّ المحكومين إلى الالتزام بأوامر الله ونواهيه، فيزول من ثم ما وقع في المجتمع من فساد خلقي وروحي وسلوكي، أو الجهاد في سبيل هذا الأمر على الأقل، فيتحقق من الإصلاح بقدر ما يخلص الناس نياتهم لله، وبمقدار ما يبذلون من الجهد اللازم للإصلاح.

لقد كان للعلماء دور القيادة والريادة في المجتمع دائماً وأبداً، وكان الناس يعرفون لهم ذلك حكاماً ومحكومين، ولم تظهر الزعامات السياسية العلمانية عند المسلمين إلا عندما تخلَّى العلماء عن دورهم في قيادة الأمة وتوجيهها، بل ما كان الناس يرضون بغير علمائهم بديلاً أبداً.

وكانت الأمة الإسلامية في كل أصقاع الدولة تحب علماءها وتجلهم وتلتف حولهم، وتفزع إليهم بعد الله سبحانه وتعالى كلما حزبها أمر و حلَّت بها مصيبة، لمعرفة الناس بمكانة العلماء وبقدرتهم على التحرك، وبالتصدي لكل ما يصيبهم من السوء، وكذلك كان الحكام يعرفون للعلماء قدرهم، إن رغبة فيهم أو رهبة منهم، وما كان علماء المسلمين يعرفون بالانقطاع إلى الدرس والتحصيل، بل كانوا هم في مقدمة المجاهدين المقاتلين، وفي مقدمة الامرين بالمعروف والناهين عن المنكر، وكانوا يشاركون أمتهم أفراحها وأتراحها، وقد لاقى بعضهم من جراء ذلك ما لاقى، ولكن لم يثنهم ذلك عن القيام بواجبهم؛ لأنهم فهموا معنى ورثة الأنبياء.

إن العلماء هم فقهاء الإسلام، ومن دار الفتيا على أقوالهم بين الأنام، الذين خصوا باستنباط الأحكام، وعنوا بضبط قواعد الحلال والحرام، والعلماء هم: أئمة الدين، نالوا هذه المنزلة العظيمة بالاجتهاد والصبر واليقين:  ﴿ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ  ﴾ [السجدة: 24]، والعلماء هم ورثة الأنبياء، ورثوا عنهم العلم، فهم يحملونه في صدورهم، وينطبع في الجملة على أعمالهم، ويدعون الناس إليه، والعلماء هم الفرقة التي نفرت من هذه الأمة لتتفقه في دين الله، ثم تقوم بواجب الدعوة ومهمة الإنذار، فعليهم أن يكونوا بين الناس، ويقوموا بواجبهم كورثة للأنبياء، ويتخلوا عن انزوائهم وابتعادهم عن الناس ومشاكلهم والاكتفاء بواجب البلاغ والإنذار، بل يتصدروا لتربية الناس وتهذيبهم وتوجيههم وترشيدهم والصبر على مخالطتهم، وحل مشاكل الناس الفكرية والنفسية والاجتماعية والسياسية... إلخ، وفق شرع الله تعالى، فالعلماء هم هداة الناس الذين لا يخلو زمان منهم حتى يأتي أمر الله، فهم رأس الطائفة المنصورة إلى قيامة الساعة، يقول الرسول ﷺ: «لا تزال طائفة من أمتي قائمين بأمر الله لا يضرهم من خذلهم، أو خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس».

فلا ينبغي أن يتخلى الكثير من العلماء عن واجبهم تجاه دعوة الله تعالى، ويتركون الناس بدون قيادة تقودهم نحو الخير والفلاح.

4 ـ شيوع الظلم والتحاكم للقوانين الوضعية:

من أهم العوامل التي تؤدي إلى بروز ظاهرة الغلو: الكبت السياسي، من ظلم الأفراد والشعوب، وظلم الناس مما ينافي مقاصد الشريعة وما أمر الله به وأمر به رسوله ﷺ، من تحقيق العدل ونفي الظلم.

5 ـ التأويلات الخاطئة لبعض آراء المفكرين المسلمين المعاصرين:

فكما أن الخوارج انطلقوا إلى بعض الآيات التي نزلت في الكفار ففصلوها زوراً وبهتاناً على طائفة من خيار الصحابة نجد كذلك نفراً من الشباب المتحمس والذي ينقصه العلم الشرعي والفقه في الدين في هذا العصر حملوا بعض آراء المفكرين المسلمين المعاصرين أكثر مما تحمل، وركبوا بسبب ذلك مركباً صعباً.

6 ـ انتشار الفساد بين الناس:

من أكبر النكايات التي أصابت الأمة الإسلامية في هذا العصر الفساد العقدي والانحراف الكبير عن منهج أهل السنة والجماعة، وظهور البدع بين المسلمين، ولم يعد الكثير منهم يفقه حقيقة الشهادة التي يرددونها صباح مساء: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وما ترمي إليه هذه الكلمة، وما هي شروطها وحقيقتها.

ولقد حاول أعداء الإسلام أن يفرغوا كلمة التوحيد من محتواها الكامل، وبحصر الإسلام في النطق بالشهادتين فقط، أو في التلفظ بهما مع إقامة الشعائر، ويزوي الدين كله في جانب قصي من الحياة لكي يعيش المسلمون حينئذ في وهن وذل وخضوع وانهزام نفسي أمام الطغيان المادي وبهرج الحياة الزائف، كما هو حال المسلمين اليوم، وانتشر الفساد الخلقي بين الناس، وأشرف على هذا الإفساد أعداء الإسلام، وقد استشرى الفساد وعم بصورة جعلت بعض الأخيار ييأسون من الإسلام، ومن ثم ولّد هذا اليأس والقنوط في نفوس بعض الشباب الذي كان متحمساً للعمل الإسلامي، ردود فعل عنيفة، وردود الفعل هـذه لهـا صور مختلفـة ومتباينـة فمنهم من انحرف مع التيار، ومنهم من اتخذ لنفسه موقفاً عدائياً سلبياً، وقنع أن هذا المجتمع الذي أصيب بهذا القدر من الفساد العقدي والأخلاقي لا خير فيه البتة، وربما حكم عليه بعضهم بأنه مجتمع كافر.

7 ـ عدم تزكية النفوس:

إن من الأسباب الرئيسية لتولد بدعة التكفير: عدم تزكية النفوس بسبب ضعف الجانب التربوي، مما يؤدي إلى الغرور والاستبداد، ويجعل المرء يشتغل بعيوب غيره، أكثر من اهتمامه واشتغاله بعيوب نفسه، وعدم تزكية النفوس يتولَّد منه أمراض خطيرة؛ منها: العجلة، والاستعلاء بالطاعة، والهوى، واحتقار الناس، وعدم احترامهم، وربما إخراجهم من الملة.

هذه بعض الأسباب التي أدت لبروز ظاهرة الغلو في العصر الحديث.

 

 

 

يمكن النظر في كتاب أسمى المطالب في سيرة علي بن أبي طالب رضي الله عنه شخصيته وعصره

على الموقع الرسمي للدكتور علي محمّد الصّلابيّ

http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book161C.pdf