الأحد 05 مايو 2024
20°اسطنبول
27°أنقرة
31°غازي عنتاب
26°انطاكيا
29°مرسين
20° اسطنبول
أنقرة27°
غازي عنتاب31°
انطاكيا26°
مرسين29°
34.92 ليرة تركية / يورو
40.78 ليرة تركية / جنيه إسترليني
8.89 ليرة تركية / ريال قطري
8.62 ليرة تركية / الريال السعودي
32.35 ليرة تركية / دولار أمريكي
يورو 34.92
جنيه إسترليني 40.78
ريال قطري 8.89
الريال السعودي 8.62
دولار أمريكي 32.35
...

الحب والحرب وما بينهما راء رحيل

29 أكتوبر 2019، 01:31 م

عندما حزمتُ حقائبَ سفري للمرة الأولى في حياتي حزمتُها للهروب، حين أدركتُ أن الحبَّ سيشنقُّ على الطرقات، وأن الحبَّ لم يعُد يجد له مكاناً بين كل هذه الوحشية والققتل والتدمير.

كان عليَّ أن أهربَ بالحبِّ من الحرب، لأجدَ له مَلجأ آمناً غير ذاك الذي تصاعدت منه روائحُ الدخان، فاتَّشحَ بسواد الحطام الذي محا كل القوافي، وقتلَ كل قصيدة كُتبَت للحبّ عندما قُرعَت طبولُ الحرب ليرتدي وطني ثوباً أحمرَ الدماء.

كانت المرة الأولى التي أغادرُ فيها بلدي مُجبرةً كي أتخلصَ من القلقِ الذي انتابني، والخوفِ الذي تملكَّني أنا وأطفالي من القصفِ والصَّواريخ وأصواتِ الرصاص والمدافع.

قبل مغادرتي قرأتُ وصيتي لكل ذرة ترابٍ مشيتُ عليها منذ طفولتي، وكتبتُ رسالةً للحب الذي بيننا، وقلت: وطني العزيز.. اليوم سأرحلُ عنك بمزيد من الأسى والقهر، وسأتركُ لك هنا كل شيء..

كتبي وأوراقي وثيابي وعِطري وكلَّ شيء إلا الحبَّ سأحملُه معي؛ كي لا تأخذَه إلى الصُّفوف الأمامية في الحرب، فيكونَ أول الشهداء.

سامحني إن كنتُ أنانية، وأخذت معي كل الحبِّ هنا دون أن أتركَ لك منه شيئاً، فتلك الرصاصة التي يطلقونها تكسر صمتي حين تستقر في أجساد بريئة لتطفئ حرارتها ومَن أطلقها هم أنفسهم مَن يطلقونَ على أنفسهم حماة الضَّريح والشهيد إذاً ما حاجتهم للحب؟ فالذين يستطيعون قتل الأبرياء والذين يمارسون كل أساليبِ التعذيب والتدمير على أناس ذنبهم الوحيد أنهم أرادوا أن يعيشوا بكرامة هؤلاء القتلة هل يعرفون الحب؟ مع كل قذيفة كنت أفقدُ كل أمل وصبرٍ وفرح؛ ومع كل تحليق للطائرات الحربية كنت أودعُ شوارع مدينتي التي باتت مظلمة منهكة القوى، تعمُّها الفوضى؛ نفسُ الفوضى التي يصنعُها الحبُّ في النفس البشرية؛ لأن الحبَّ والحربَ متشابهان، ولكنهما لا يجتمعان.

حين هزّت آخرُ سلسلة للانفجارات مَسامعي، ظننتُ أنني ارتحلتُ إلى دار الحبِّ الأبدي هناك؛ حيث لا شيء يعكرُ صفوَ الحياة ولا دخانَ يحجبُ الرؤية، والحبُّ يحيا فيها بأمان، ولكنّي لم أمُت هذه المرة، وشاءَ القدر للحبِّ أن يحيا في شقَاء هنا بين الرصاص والبندقية؛ ولذلك قررتُ أن أرحلَ عنك، وأن أحملَ معي الحبَّ في حقائبِ سفري لأنقذَ ما تبقى منه في قلبي تحت أنقاضِ الحرب. تركت لكَ زينتي وحلوى العيد، وقلمَ الكحلِ الأسود، وجديلتي الشّقراء، والياسمينة على جدار بيت جدي، وضَحكاتي بين الأزقَّة، تركتُها كي تعلمَ أنني سأعودُ يوماً عندما يصبحُ للحبِّ مكانٌ، وللقلب سلامٌ، يا وطني.

يقولون أن الحبَّ والحربَ مُتلازمان، وأنا أقولُ لكَ يا وطني أنهم مخطئون، فلو أن في قلبهم حَفنة من الحبَّ ما أعلنوا الحرب، وما انتهكوا الأعراضَ، وما شتَّتوا الجمعَ، وأراقُوا الدماء، لو أن في قلوبهم قليلاً من الحُب ما استطاعُوا أن يفعلوا ما فعلوه، ولا استطاعُوا أن يحرقُوا الأخضرَ واليابسَ في سبيلِ بقائهم وفرضِ سلطتِهم ومُمارساتهم الديكتاتورية التعسُّفية.

أما أنت فممنوعٌ عليك الحبُّ؛ كي لا تُسامحهم، وكي لا يبقى في قلبك شيءٌ من الرحمة تُجاههم، فتحاسبهم بكلّ ما أوتيتَ من قوة وقسوة بكل ما مرَّ عليك من حِرمان وجُوع وظُلم؛ كي تقتلَهم كما قتلونا، وتُشرِّدَهم كما شرَّدونا.

ولأن الحبَّ تسامحٌ ورحمة، فسأحملُه معي حتى لا ترحمهُم، ولأن الحبَّ لا يعرفُ الانتقام؛ سأحمله معي حتى لا يبقى فيك ولو جزءٌ صغيرٌ من العطف والإشفاقِ عليهم.

وصيتي لكَ يا وطني أن لا تلينَ عزائمك .. ثابِر وقاتل وفجّر الكُرهَ في داخلك، واصِل رسالتكَ حتى النصر، فقلبنا متعطشٌّ لوطنٍ بلا همّ، وطنٍ بلا أعداء، ولحنٍ يعلنُ انتصارَ الحق، ويرتلُ السلامَ على مَسامعنا، حينها سيكونُ طريقُ العودة بسلام مُعبداً ما بيني وبينك، وحالةُ السلمِ ستسودُ بلادي، فأعود لكَ بذلك الحبِّ الذي حملتُه معي براءِ الرّحيل