الخميس 04 ابريل 2024
20°اسطنبول
27°أنقرة
31°غازي عنتاب
26°انطاكيا
29°مرسين
20° اسطنبول
أنقرة27°
غازي عنتاب31°
انطاكيا26°
مرسين29°
34.44 ليرة تركية / يورو
40.21 ليرة تركية / جنيه إسترليني
8.78 ليرة تركية / ريال قطري
8.53 ليرة تركية / الريال السعودي
31.98 ليرة تركية / دولار أمريكي
يورو 34.44
جنيه إسترليني 40.21
ريال قطري 8.78
الريال السعودي 8.53
دولار أمريكي 31.98
...

تحريرُ مفهوم الوسطيَّة في الإسلام

22 ابريل 2020، 04:36 م

إنَّ تحرير المفاهيم وتأكيدها وبنائها على الأصول والقواعد والأدلَّة والنُّصوص، ثمَّ ممارسة هذه المفاهيم بعد تحريرها في واقع الحياة العامَّة، أراه من الأهميَّة بمكان، وأعتقد أنَّ أكثر الأخطاء، التي تقع من الأفراد والجماعات، تكون بسبب عدم تحرير وتقعيد وتأصيل المفاهيم أولًا، وقيام كلِّ فرد وجماعة وحزب بممارسة المفهوم، وفق فهمه الشَّخصي القاصر، لذا أجد في واقع حياتنا الدَّعويَّة كثيرًا من المفاهيم، تحتاج منَّا لتحريرها وفق القواعد والأصول والنُّصوص، قبل القيام بممارستها في الحياة العمليَّة، ومن هذه المفاهيم مفهوم " الوسطيَّة "، ويمكن تحرير هذا المفهوم وممارسته في الواقع الحياتي من خلال النُّقاط الآتية:

أولًا: تعريف الوسطيَّة:

هي أن نقدِّم الإسلام منهجًا هاديًا للزَّمان والمكان والإنسان، موصولًا بالواقع، مشروحًا بلغة العصر (  وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ) إبراهيم: 4. جامعًا بين النَّقل الصَّحيح والعقل الصَّريح، منفتحًا على الحضارات دون ذوبان، مراعيًا الخصوصيَّة بلا انغلاق، منتفعًا بكلِّ قديم صالح، مرحبًا بكلِّ جديد نافع، ميسِّرًا في الفتوى، مبشِّرًا بالدَّعوة، مراعيًا طبيعة خلق الإنسان، وكونه خلق من مادة وروح، فيوزان بين مادته وروحه..

ثانيًا: ملامح الوسطيَّة في الإسلام: أعتقد أن الوسطيَّة تشمل جميع ميادين الإسلام ومجالاته، فهو دين التَّوسُّط والاعتدال، فالحكمة، والاستقامة، والعدل، والخيريَّة، والبينيَّة، كلها ترى فيها الوسطيَّة، والوسطيَّة تكون في باب العقائد، والعبادات، والتَّشريع، والحريَّات العامَّة، وكذلك في سلطات الدَّولة الثَّلاث: التَّشريعيَّة، والقضائيَّة والتَّنفيذية، وكذلك في حريَّة الرَّأي والتَّفكير والتَّعبير، وحقوق المرأة والطِّفل، فلا يوجد جانب من جوانب الحياة؛ إلا وتجد فيه وسطيَّة الإسلام واضحة جليَّة، وما التَّصرُّفات الخاطئة، التي يمارسها بعض الأفراد، بعيدًا عن وسطيَّة الإسلام، إلا نتيجة حتميَّة لسوء فهم النُّصوص ودلالاتها ومآلاتها، وعدم الفهم والإدراك الصَّحيح والسَّليم للنَّص..

ثالثًا: آليَّة العمل بمفهوم الوسطيَّة:

لا بدَّ من ترتيب الأولويَّات في العمل الدَّعوي والتَّربوي، فيقدِّم الأهم قبل المهم، ويقدِّم في العمل ما حقُّه التَّقديم، ويؤخِّر ما حقُّه التَّأخير والتَّراخي..

يقول ابن القيم - رحمه الله - :

( حدُّ الاعتدال: أن تُقدِم حيث يتطلَّب الأمر إقدامًا، وأن تُحجِم حيث يتطلَّب الأمر إحجامًا، فإنَّ الإقدام في موطن الإحجام يعتبر تهوُّرًا، وإنَّ الإحجام في موطن الإقدام يعتبر خوَرًا وضعفًا وجُبْنًا ).

ولا يُقدَم على عمل ما إلا بعد التَّأصيل والفهم الدَّقيق للنَّص، وتوافر الخبرة والمعرفة بمآلات ذلك العمل ونتائجه.

رابعًا: توضيح وبيان لحديث النَّبيِّ عليه الصَّلاة والسَّلام:

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:

قال النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم: ( إنَّ الدِّين يسر، ولن يشادَّ الدينَ أحدٌ إلا غلبه، فسددوا، وقاربوا، وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والرَّوحة وشيء من الدُّلَجة ) رواه البخاري.

يقول العلامة عبد الرحمن السعدي رحمه الله:

" ما أعظم هذا الحديث وأجمعه للخير والوصايا النَّافعة والأصول الجامعة، فقد أسَّس صلَّى الله عليه وسلَّم في أوله هذا الأصل الكبير، فقال: ( إنَّ الدِّين يسر ) أي: ميسَّر مسهَّل في عقائده وأخلاقه وأعماله، وفي أفعاله وتُروكه:

فإنَّ عقائده التي ترجع إلى الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقَدَر خيره وشره: هي العقائد الصَّحيحة، التي تطمئن لها القلوب، وتوصِل مقتديها إلى أجلِّ غاية، وأفضل مطلوب، وعقائده صحيحة بسيطة ، تقبلها العقول السَّليمة، والفطر المستقيمة.

وأخلاقه وأعماله أكمل الأخلاق وأصلح الأعمال، بها صلاح الدِّين والدُّنيا والآخرة، وبفواتها يفوت الصَّلاح كلُّه، وهي كلُّها ميسَّرة مسهَّلة، كلُّ مكلَّف يرى نفسه قادراً عليها، لا تشقُّ عليه، ولا تكلِّفه، وفرائضه كالصَّلاة والصِّيام والزَّكاة والحجِّ أسهل شيء، وكذلك بقيَّة شرائع الإسلام، التي هي في غاية السُّهولة الرَّاجعة لأداء حقِّ الله وحقِّ عباده، فهي في نفسها ميسَّرة، قال الله تعالى: ( يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ) البقرة: 185، ومع ذلك إذا عرض للعبد عارض مرض أو سفر أو غيرهما، رتَّب على ذلك من التَّخفيفات، وسقوط بعض الواجبات، أو صفاتها وهيئتها، ممَّا هو معروف، ثمَّ إذا نظر العبد إلى الأعمال الموظَّفة على العباد في اليوم والليلة المتنوعة من فرض ونفل، وصلاة وصيام وصدقة وغيرها، وأراد أن يقتدي فيها بأكمل الخلق وإمامهم محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم، رأى ذلك غير شاقٍّ عليه، ولا مانع له عن مصالح دنياه، بل يتمكَّن معه من أداء الحقوق كلِّها: حقّ الله، وحقّ النَّفس، وحقّ الأهل والأصحاب، وحقّ كلّ من له حقّ على الإنسان برفق وسهولة.

وأمَّا من شدَّد على نفسه، فلم يكتف بما اكتفى به النَّبيُّ صلّى الله عليه وسلّم، ولا بما علَّمه للأمَّة وأرشدهم إليه، بل غلا وأوغل في العبادات: فإنِّ الدِّين يغلبه، وآخر أمره العجز والانقطاع، ولهذا قال: ( ولن يَشادَّ الدينَ أحدٌ إلا غلبه )

فمن قاوم هذا الدِّين بشدّة وغلو ولم يقتصد: غلبه الدِّين، واستحسر، ورجع القهقرى.

ولهذا أمر صلّى الله عليه وسلّم بالقصد، وحثّ عليه، فقال: ( والقصد القصد تبلغوا ) ثمَّ وصَّى صلّى الله عليه وسلَّم بالتَّسديد والمقاربة، وتقوية النُّفوس بالبشارة بالخير، وعدم اليأس.

فالتَّسديد: أن يقول الإنسان القول السَّديد، ويعمل العمل السَّديد، ويسلك الطَّريق الرَّشيد، وهو الإصابة في أقواله وأفعاله من كلِّ وجه، فإن لم يدرك السَّداد من كلِّ وجه، فليتق الله ما استطاع، وليقارب الغرض، فمن لم يدرك الصَّواب كلَّه، فليكتف بالمقاربة، ومن عجز عن العمل كلِّه، فليعمل منه ما يستطيعه، ويؤخذ من هذا أصل نافع دلّ عليه أيضاً قوله تعالى: ( فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ) التغابن: 16. وقوله صلّى الله عليه وسلّم: ( إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ) والمسائل المبنية على هذا الأصل لا تنحصر، وفي حديث آخر: ( يسِّروا، ولا تعسروا، وبَشِّروا، ولا تنفروا ) متفق عليه.

ثمَّ ختم الحديث بوصية خفيفة على النُّفوس، وهي في غاية النَّفع فقال: ( واستعينوا بالغدوة والرَّوحة، وشيء من الدُّلجة ) وهذه الأوقات الثَّلاثة كما أنَّها السَّبب الوحيد لقطع المسافات القريبة والبعيدة في الأسفار الحسِّية، مع راحة المسافر، وراحة راحلته، ووصوله براحة وسهولة، فهي السَّبب الوحيد لقطع السَّفر الأخروي، وسلوك الصِّراط المستقيم، والسَّير إلى الله سيراً جميلاً، فمتى أخذ العامل نفسه، وشغلها بالخير والأعمال الصَّالحة المناسبة لوقته - أوّل نهاره وآخر نهاره، وشيئاً من ليله، وخصوصاً آخر اللَّيل - حصل له من الخير، ومن الباقيات الصَّالحات أكمل حظ، وأوفر نصيب، ونال السَّعادة والفوز والفلاح، وتمَّ له النَّجاح في راحة وطمأنينة، مع حصول مقاصده الدُّنيويَّة، وأغراضه النَّفسيَّة.

وهذا من أكبر الأدلَّة على رحمة الله بعباده بهذا الدِّين، الذي هو مادَّة السَّعادة الأبديَّة؛ إذ نصبه لعباده، وأوضحه على ألسنة رسله، وجعله ميسَّراً مسهَّلاً، وأعان عليه من كلِّ وجه، ولطف بالعاملين، وحفظهم من القواطع والعوائق.

فعلمت بهذا: أنَّه يؤخذ من هذا الحديث العظيم عدَّة قواعد:

القاعدة الأولى: التَّيسير الشَّامل للشَّريعة على وجه العموم.

القاعدة الثَّانية: المشقَّة تجلب التَّيسير وقت حصولها.

القاعدة الثَّالثة: إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم.

القاعدة الرَّابعة: تنشيط أهل الأعمال، وتبشيرهم بالخير، والثواب المرتِّب على الأعمال.

القاعدة الخامسة: الوصيَّة الجامعة في كيفيَّة السَّير والسُّلوك إلى الله، التي تغني عن كلِّ شيء، ولا يغني عنها شيء، فصلوات الله وسلامه على من أوتي جوامع الكلم ونوافعه " انتهى بتصرُّف يسير، بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار في شرح جوامع الأخبار ص:77-80.

ختامًا أقول:

إنَّ ما يحدث من تصرُّفات رعناء عنيفة من طيف من شباب الصَّحوة، وحدوث تفجيرات هنا وهناك، مردُّه بنظري لأمرين أساسيين، وهما:

1- عدم الفهم الصَّحيح للنُّصوص الشَّرعيَّة ومآلاتها، وضعف العلم الشَّرعي عمومًا فيهم، وممارسة الأعمال بناء على فهمهم القاصر الضَّحل، وعدم رجوعهم للعلماء الرَّبَّانيين المجتهدين، واكتفائهم بمراجعهم الخاصَّة بهم، كأمثال أبي قتادة الفلسطيني، وأبي محمَّد المقدسي وغيرهما..

2- الضُّغوط النَّفسيَّة التي مارسها الحكَّام عليهم في السُّجون والمعتقلات السِّرِّيَّة، حيث مورست عليهم أنواع وأصناف من التَّعذيب النَّفسي والجسدي، لو نزلت على جبل لتفتَّت من هولها ووحشيتها، وفي حقيقة الأمر عمل الأعداء في الغرب وأمريكا، وبتنفيذ مباشر من حكام العرب والمسلمين لصناعة وزرع ثقافة التوحُّش في صفوف شباب الصَّحوة الإسلاميَّة، فقد دعمت أمريكا هذا بكلِّ جلاء ووضوح في أفغانستان، حيث أغرت شبابنا بأن ينفروا للجهاد ضدَّ الشُّيوعيَّة، ودعمت الحكومات العربيَّة والإسلاميَّة هذا التَّوجُّه، وعندما انتهى الجهاد في الأفغان، عاد الشَّباب المجاهد المخلص لبلادهم، وهم في منتهى النَّشوة والحيويَّة والنَّشاط والحماسة لنصرة دينهم، يودعون في السُّجون، ويعذَّبون ويهانون، ليخرجوا متوحِّشين، صنعوا بعناية فائقة من قبل أجهزة المخابرات العالميَّة، ويمكَّنوا من إقامة خلافة داعشيَّة على الطَّريقة الأمريكيَّة، ليشوهوا بذلك الصُّورة النَّموذجيَّة للخلافة الإسلاميَّة الرَّاشدة، لذلك أجد من الواجب الشَّرعي على علماء ودعاة الإسلام التوضيح والبيان لمؤمرات وكيد الأعداء في الدَّاخل والخارج، وتحذير شباب الصَّحوة من هذا المنزلق الخطير جدًا على الشُّعوب والجماعات والأفراد في بلاد المسلمين، فالهدف الوحيد للأعداء من صناعة ثقافة التوحُّش: أن يقتل المسلمون المسلمين، ويبتعد خطر المسلمين عن بلادهم كما يزعمون..

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلَّى الله وسلَّم على نبيَّنا محمَّد، وعلى آله وصحبه أجمعين..