الجمعة 12 ابريل 2024
20°اسطنبول
27°أنقرة
31°غازي عنتاب
26°انطاكيا
29°مرسين
20° اسطنبول
أنقرة27°
غازي عنتاب31°
انطاكيا26°
مرسين29°
34.44 ليرة تركية / يورو
40.21 ليرة تركية / جنيه إسترليني
8.78 ليرة تركية / ريال قطري
8.53 ليرة تركية / الريال السعودي
31.98 ليرة تركية / دولار أمريكي
يورو 34.44
جنيه إسترليني 40.21
ريال قطري 8.78
الريال السعودي 8.53
دولار أمريكي 31.98
...

ضرورة رعاية النَّابغين والموهوبين في المجتمع

26 ابريل 2020، 01:16 م

السِّمة العامَّة في المجتمعات العربيَّة والإسلاميَّة أنَّهم مهملون للنَّابغين والموهوبين في مجتمعاتهم، وهذه ظاهرة لا تبشِّر بخير أبدًا، لأنَّ فيها وَأْدًا متعمَّدًا لطاقات وقدرات أبناء الجيل الصَّاعد، وقد نجد بعض الاهتمام الخجِل عند بعضهم، لكنَّه ليس على المستوى المطلوب والمؤمَّل، ولذلك وجد بعض الموهوبين والنَّابغين بغيتهم وضالَّتهم لدى بلاد الغرب وأمريكا، فهاجرت تلك العقول الذَّهبيَّة العربيَّة إليهم، فكانت سببًا في نهضتها وتقدُّمها، فقلَّ أن تجد اختراعًا ما، ليس وراءه عقلًا مفكِّرًا عربيًّا أو إسلاميًّا، تمَّت رعايته والعناية به أوروبيًّا أو أمريكيًّا.

والملاحظ المدقِّق في سيرة رسولنا الكريم عليه الصَّلاة والسَّلام، يجد أنَّه راعى هذا الجانب في صحابته الكرام رضي الله عنهم أجمعين، فقد أولى الموهوبين والنَّابغين عنايته الفائقة، بل كانوا نصب عينيه الشَّريفتين، فنبغ في الشِّعر حسَّان بن ثابت رضي الله عنه وغيره، ونبغ في الفقه ابن عباس رضي الله عنه وغيره، ونبغ في القضاء بين الخصوم علي بن أبي طالب ومعاذ بن جبل رضي الله عنهما وغيرهما، وكذلك نبغ في تعلَّم اللُّغات زيد بن ثابت رضي الله عنه، وفي الحفظ أبو هريرة رضي الله عنه، وفي الحنكة العسكريَّة خالد بن الوليد رضي الله عنه، وفي القوَّة البدنيَّة سلمة بن الأكوع رضي الله عنه وغيره.

فكان عليه الصَّلاة والسَّلام يرعاهم، ويوجِّههم، وينصحهم، ويأمرهم بالعمل لما فيه مصلحة الإسلام، ويكلِّف كلَّ واحد منهم بما يناسب حاله، والشَّيء الذي نبغ فيه لنصرة الدِّين.

انظر كيف شجَّع شاعره حسَّان رضي الله عنه بقوله: ( اهجهم، وجبريل معك ) رواه البخاري.

قال ابن كثير - رحمه الله - : ( كان زيد بن ثابت من أشد النَّاس ذكاءً، تعلَّم لسان يهود وكتابه في خمسة عشر يوماً، وتعلَّم الفارسيَّة من رسول كسرى في ثمانية عشر يوماً، وتعلَّم الحبشيَّة والرُّوميَّة والقبطيَّة من خُدَّام رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ) البداية والنِّهاية: 8/29.

ولذلك جعله النَّبي عليه الصَّلاة والسَّلام من كتبة الوحي، تقديرًا لنبوغه وموهبته في الإتقان والضَّبط والدِّقة في الحفظ، ونظراً للصِّفات العظيمة التي تمتَّع بها هذا الشَّاب، اختاره أبو بكر الصِّدِّيق رضي الله عنه لرئاسة اللِّجنة التي قامت بجمع المصحف، ومن نوابغ الصَّحابة الذين اعتنى بهم النَّبيُّ عليه الصَّلاة والسَّلام، ورعى موهبتهم، ووجَّههم وعلَّمهم: معاذ بن جبل رضي الله عنه، حيث ولَّاه قضاء اليمن، مع أنَّه صغير في السِّنِّ، ولكنَّه نبغ في فقه الحلال والحرام، وأرسل مصعب بن عمير رضي الله عنه إلى المدينة معلِّمًا وسفيرًا، مع أنَّه صغير في السِّنِّ نسبيًا، فتمَّ على يديه فتح المدينة بالقرآن، ولم تفتح بالسَّيف.

كما اختار النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم النُّجباء للمهام الصَّعبة، فكلَّف علياً رضي الله عنه بالمبيت في فراشه ليلة الهجرة مع خطورة هذه القضيَّة؛ لكنَّ علياً رضي الله عنه قام بهذه المهمَّة خير قيام، فكان أوَّل فدائي في الإسلام، واختاره عليه الصَّلاة والسَّلام لقيادة جيش فتح خيبر.

كما اختار يوم الأحزاب حذيفة بن اليمان رضي الله عنه؛ ليدخل بين صفوف العدو، ليأت بخبر جيش كفَّار قريش، وهذا الاختيار لحذيفة رضي الله عنه، وهو الفدائيُّ الذَّكي النَّبيه، الذي يحسن التَّصرف، ولجودة حذيفة في كتم الأسرار، جعله كاتب أسماء المنافقين، فأخبره بها بمن يعرفه منهم.

وكان عليه الصَّلاة والسَّلام يشيد ويبين مكانة صاحب النبوغ والمهارة والمنزلة بين أصحابه، فعن أنس رضي الله عنه، أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ( أخذ سيفاً يوم أحد، فقال: من يأخذ مني هذا ؟ فبسطوا أيدهم، كلُّ إنسان منهم يقول: أنا أنا. قال: فمن يأخذه بحقِّه ؟ فأحجم القوم. فقال سماك بن خرشة - أبو دجانة - رضي الله عنه: أنا آخذه بحقِّه، فأخذه ففلق به هام المشركين. يعني: شقَّ رؤوسهم ) رواه مسلم.

فعرْضُه السَّيف على أصحابه؛ ليُبْرِز مَنْ له أهل، ومن يأخذه بحقِّه، فتُعرف منزلته ومكانته.

وممَّا يدلُّ على حرص النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم على رعاية الموهوبين، وإبراز مواهبهم ونبوغهم، ثناءه ومدحه لأصحاب الصِّفات المتميِّزة، ليلفت النَّظر لهم، من أجل الاستفادة ممَّا تميَّزوا به، لخدمة قضيَّته ومهمَّته في تبلغ رسالة الإسلام، فقال عليه الصَّلاة والسَّلام: ( أرحم أمَّتي بأمَّتي أبو بكر، وأشدُّهم في دين الله عمر، وأصدقهم حياء عثمان، وأقضاهم علي بن أبي طالب، وأقرؤهم لكتاب الله أبيُّ بن كعب، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وأفرضهم زيد بن ثابت، ألا وإنَّ لكلِّ أمَّة أمين، وأمين هذه الأمَّة أبو عبيدة ابن الجراح ) رواه الحاكم، وصحَّحه الألباني.

وقال عليه الصَّلاة والسَّلام معزِّزًا ومشجِّعًا ومحفِّزًا: ( من أراد أن يقرأ القرآن غضًّا كما أنزل، فليقرأه على قراءة ابن أمِّ عبد ) يعني: عبد الله بن مسعود، رواه ابن ماجه، وصحَّحه الألباني.

إنَّ النَّابغين والموهوبين هم أصحاب الهمم العالية، وهم أعمدة كلِّ حضارة ظهرت في سماء التَّاريخ، بهم تقوم، وعليهم يعوَّل استمرارها وازدهارها، ولقد سجَّل التَّاريخ لنا في كلِّ حضارة أفذاذًا من العلماء والمفكرين، لا يملُّ القارئ من مطالعة سيرتهم، وجهادهم في الوصول إلى القمم الشَّاهقة من جبال المجد، وقد قامت الحضارة الإسلاميَّة على أمثال هؤلاء العباقرة، فصار الحديث عنهم ضربًا من ضروب الأعاجيب، تنبهر به العقول والأفئدة، وصارت سيرتهم وقودًا يشحذ همم المسلمين الرَّاكدة في مبارِك الكسل، تنادي بسرِّ تقدُّمهم، وسرِّ تقهقرنا.

ختامًا: أدعو في نهاية مقالتي كلَّ غيور وحريص من أبناء أمَّتنا العربيَّة والإسلاميَّة، كلٌّ في موقعه وثغره، أن يهتمَّ كلَّ الاهتمام بالموهوبين والنَّابغين بطرفه، وذلك من خلال الخطوات الآتية:

أولًا: التَّشجيع المادي والمعنوي لكلِّ نابغة وموهوب، والعمل على لفت الأنظار إليهم، ورفع أمرهم للجهات المعنيَّة لرعايتهم ودعمهم، والوقوف بجانبهم وتعزيزهم..

ثانيًا: إنشاء محاضن تربويَّة وتعليميَّة خاصَّة بالموهوبين، ورفدها بكوادر متميَّزة، ودعمها بكلِّ الإمكانيَّات المتاحة، والإنفاق اللامحدود عليها، لأنَّ أغلى وأثمن وأنجح استثمار على الإطلاق هو: الاستثمار في الموارد البشريَّة، فهي أصل وأساس كلِّ استثمار، والرَّكيزة الأولى التي تُبنى عليها اقتصاديَّات دول العالم جميعًا.

ثالثًا: تخصيص لجان ذات خبرة ودراية، وإيفادها لبلاد لها عناية واهتمام بالموهوبين، لدراسة وتحليل تجربتها، ونقلها لبلادنا للاستفادة من خبرتها في هذا الجانب المهم.

رابعًا: تأسيس مركز متخصص يقوم بدراسة دقيقة للحضارة الإسلاميَّة، التي أنتجت لنا نوابغ خلَّدها التَّاريخ، خاصَّة وكون حضارة الإسلام امتازت بخصائص ومميِّزات، لا توجد في الحضارات الأخرى، مثل: الإخلاص - الصِّدق - الأمانة - النَّقاء والطَّهارة - الجدِّ والنَّشاط، فيُخرجوا لنا منهجًا علميًّا، نسير عليه في رعاية الموهوبين والنَّابغين، وفق حضارة ومنهج الإسلام الحنيف..

خامسًا: استحداث " وزارة رعاية الموهوبين " تكون لها ميزانية خاصَّة بها، يقوم عليها رجال مخلصون، لهم اهتمام كبير برعاية النَّابغين، ولديهم الخبرة الكافية في هذا الباب..

سادسًا: الدَّعوة لإقامة مؤتمر عام، يضمُّ جميع الدُّول العربيَّة والإسلاميَّة، للتنسيق فيما بينها، لدعم ورعاية الموهوبين في كافَّة البلاد، فالموهوبون والنَّابغون في النِّهاية كنز للعرب والمسلمين أجمعين.

سابعًا: عمل إحصائية دقيقة لكافَّة الموهوبين والنَّابغين، ومعرفة بروز ونبوغ كلٍّ منهم، وعمل بطاقات تعريفيَّة لكلِّ واحد منهم، يوضح فيها معلوماته الشَّخصِّيَّة، والعلوم والمواهب النَّابغ فيها، ومتطلباته لإكمال مسيرته..

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله وسلَّم على نبينا محمَّد، وعلى آله وصحبه أجمعين..