الجمعة 05 ابريل 2024
20°اسطنبول
27°أنقرة
31°غازي عنتاب
26°انطاكيا
29°مرسين
20° اسطنبول
أنقرة27°
غازي عنتاب31°
انطاكيا26°
مرسين29°
34.44 ليرة تركية / يورو
40.21 ليرة تركية / جنيه إسترليني
8.78 ليرة تركية / ريال قطري
8.53 ليرة تركية / الريال السعودي
31.98 ليرة تركية / دولار أمريكي
يورو 34.44
جنيه إسترليني 40.21
ريال قطري 8.78
الريال السعودي 8.53
دولار أمريكي 31.98
...

العبادة الغائبة المنسيَّة

05 مايو 2020، 10:35 ص

العبادات في الإسلام كثيرة ومتنوعة، وهناك قاعدة تقول: النِّيَّات تقلب العادات إلى عبادات، فكلُّ عادة إذا أُخلصت النِّيَّةُ فيها لربِّ العباد، تحوَّلت لعبادة يؤجر عليها العبد ويثاب، فطعامُك، وشرابُك، ولباسك، وقيامك، وقعودك، ومنامك، ويقظتك، وحركاتك، وسكناتك، حتى نكاحُك ولذتك وشهوتك تصبح عبادة، إذا استحضرت النِّيَّة الصَّالحة والصَّادقة والخالصة لله ربِّ العالمين، قال صلَّى الله عليه وسلَّم: ( وفي بُضع أحدكم صدقة، قالوا: يا رسول الله أيأتي أحدُنا شهوتَه، ويكون له فيها أجر ؟! قال: أرأيتم لو وضعها في حرام، أكان عليه فيها وزر ؟ فكذلك، إذا وضعها في الحلال، كان له أجر ) رواه مسلم.
وممَّا يرسِّخ هذا في النُّفوس ويؤكِّده، أنَّ عمر بن عبد العزيز الخليفة الخامس - رحمه الله تعالى، والذي تولَّى الخلافة عام 99 هجرية، ورحل عنها عام 101 هجرية، فدامت خلافته 29 شهرًا، و17 يومًا - سئل يومًا: أنجزت إنجازات ضخمة وكبيرة، خلال تقلُّدك للخلافة، وإمساكك بزمام ملك الدولة الأموية، فكيف قمت بهذا الكمِّ الهائل من الأعمال ؟؟. أجاب بكلِّ ثقة وهدوء بقوله: ( لم أخطُ خطوة إلا بنيَّة )، نعم بهذا بلغ ما بلغ، وأنجز ما أنجز، إنَّه والله سرٌّ دقيق غفل عن بركته الكثير من الحكَّام والمحكومين اليوم، ولذلك العاقل الحصيف يحوِّل بنيَّته عادَته عبادة، والغافل المسكين يحوِّل بنيَّته عبادته عادة، وفرق كبير بين النِّيتين، والموفَّق من وفَّقه الله للأولى..
وهناك يا سادة عبادة غائبة منسيَّة، غفل عنها حتى بعض النُّخب في عالمنا الإسلامي اليوم، إنَّها عبادة اليقين والثِّقة بالله، والتَّوكل عليه حقَّ التَّوكُّل، هذه العبادة غابت في حياتنا، ونسيها العامَّة والخاصَّة، وتبرُز حاجتنا لهذه العبادة في هذا الزَّمان، الذي اختلطت فيها الأمور، وتداخلت وتشابكت فيها الأحوال، في ظلِّ هذه الهجمة الشَّرسة، التي يمارسها الأعداء داخليًا وخارجيًا، (مكرًا كبَّارًا) كما وصفه الله في كتابه الكريم، وبلغت قلوب وأفئدة أهل السُّنَّة والجماعة الحناجر، وظنَّ البعض منهم بالله الظنُّونَ، انظر إلى حال أهلنا في سورية، ولحال إخواننا في اليمن، ولمآل المسلمين الروهنغا، صار حال المسلمين السُّنَّة يُرثى له، أنَّى اتَّجهت إلى الإسلام في بلد، تجدْه كالطَّير مقصوصًا جناحاه، لمثل هذا يموت القلب من كمدٍ، إن كان في القلب إسلام وإيمان..
نحن في أمسِّ الحاجة هذه الأيام، لتجديد العمل بعبادة اليقين والتَّوكل، وإرشاد الخاصَّة والعامَّة إليها، وممارستها بالضَّوابط الشَّرعيَّة لها، وأهمُّ ضابط لها هو: يقينٌ بتوكُّل لا بتواكل، فمن أيقن بنصر الله وعونه، وأخذ بالأسباب المتاحة والممكنة له، فقد توكَّل على الله حقَّ التَّوكُّل، ومن تركها فقد تواكل، ومن اعتمد عليها فقد أشرك..
إنّ اليقينَ هو روحُ أعمالِ القلوب، وأساسُ عباداتِ البواطن، ومن لا يقين له، فلا طعم لعبادته ولا ذوق ولا رائحة، فقد روى الطَّبرانيُّ، وأحمد في الزُّهد، وصحَّحه الألباني، أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلَّم قال: ( صلُح أول هذه الأمة بالزهد واليقين، ويهلك آخرها بالبخل والأمل ).
ويقول بكر المزني، متحدِّثًا عن أبي بكر الصِّديق رضي الله عنه: ( والله ما سبقهم أبو بكر بكثرةِ صلاةٍ ولا صيامٍ، ولكن بشيء وقرَ في قلبه )، ويقصد بما وقر في قلبه: اليقين والتوكل والثقة بالله عزَّ وجلَّ.
ويقول عبد الله بن المبارك: ( ما رأيتُ رجلاً ارتفع ذكره وقدره، مثل مالك بن أنس، ليس له كثير صلاة ولا صيام، إلا أنه رجلٌ كانت له سريرة مع الله ) ويقصد بالسريرة: عبادة اليقين والتوكل.
ويقول ابن القيِّم - يرحمه الله - في كتابه مدارج السَّالكين: ( اليقين من الإيمان بمنزلة الروح من الجسد، وفيه تفاضل العارفون، وفيه تنافس المتنافسون، وإليه شمـّر العاملون ).
ويقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: ( الصبرُ نصف الإيمان، واليقينُ الإيمان كله ).
ويقولُ خالد بن معدان: ( تعلموا اليقين، كما تتعلمون القرآن، حتى تعرفوه، فإني أتعلمه ).
قد تصل بك عبادة اليقين، لدرجة لا تحلم بها، من تكفيرٍ لكبائر ذنوبك، ومحوٍ لعظائم خطاياك، فقد قال شيخُ الإسلام ابن تيمية: ( والحسنةُ الواحدةُ، قد يقترن بها من الصِّدق واليقين، ما يجعلها تكفِّر الكبائر ).
ويقول أبو ذر رضي الله عنه، وهو مثال للمسلمين في مقام اليقين والزهد والورع: ( ولَمثقالُ ذرةٍ من برٍّ، من صاحب تقوى ويقين، أفضل وأرجح وأعظم، من أمثال الجبال عبادةً من المغترِّين ).
فهيَّا يا سادة لتحقيق اليقين في قلوبنا، وقلوب من نحبُّ، وإليكم بعض الفوائد العظمى لتحقيقه في قلوبنا:
1- النَّصر والسِّيادة على الأمم جميعًا، وليس فقط في سورية واليمن والعراق وليبيا، فبالصَّبر واليقين تنال الإمامة في الدِّين والدنيا، قال الله تعالى: ( وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا ۖ وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ) السجدة: 24.
2- إجابة دعائنا، بتفريج كروبنا، ونصرنا على عدونا بشَّار الأسد، ومن يسانده ويؤيِّده، من الرُّوس والمجوس والنُّصيريَّة، فاليقين أساس وركيزة إجابة الدعاء، فقد روى الترّمذي، وحسَّنه الألباني، قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: ( ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة ).
3- تهوين مصائب الدُّنيا علينا، وما يحدث من قصف وتدمير لبيوتنا، وهلاك حرثنا وممتلكاتنا، وموت لأحبتنا وأولادنا وأحفادنا، وخاصَّة أمس في معرة النعمان وكفرنبل، كل ذلك يهونه يقيننا بربِّنا بنصره لنا، وأنَّه لن يضيِّعنا، وهو ملاذنا وسندنا، روى الترمذي بسنده المتصل لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أنَّه كان يدعو: 
( اللَّهُمَّ اقْسِمْ لَنَا مِنْ خَشْيَتِكَ مَا يَحُولُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مَعَاصِيكَ، وَمِنْ طَاعَتِكَ مَا تُبَلِّغُنَا بِهِ جَنَّتَكَ، " وَمِنَ اليَقِينِ مَا تُهَوِّنُ بِهِ عَلَيْنَا مُصِيبَاتِ الدُّنْيَا "، وَمَتِّعْنَا بِأَسْمَاعِنَا وَأَبْصَارِنَا وَقُوَّتِنَا مَا أَحْيَيْتَنَا، وَاجْعَلْهُ الوَارِثَ مِنَّا، وَاجْعَلْ ثَأْرَنَا عَلَى مَنْ ظَلَمَنَا، وَانْصُرْنَا عَلَى مَنْ عَادَانَا، وَلاَ تَجْعَلْ مُصِيبَتَنَا فِي دِينِنَا، وَلاَ تَجْعَلِ الدُّنْيَا أَكْبَرَ هَمِّنَا، وَلاَ مَبْلَغَ عِلْمِنَا، وَلاَ تُسَلِّطْ عَلَيْنَا مَنْ لاَ يَرْحَمُنَا ) رواه الترمذي، وصحَّحه الألباني.
4- اليقين بالله والتوكل عليه سبيل يوصلك للجنة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: كنا قعودًاً حول رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، ومعنا أبو بكر وعمر -رضى الله عنهما- في نفر، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين أظهرنا، فأبطأ علينا، وخشينا أن يُقتطع دوننا، وفزعنا فقمنا، فكنتُ أول من فزع، فخرجت أبتغي رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى أتيت حائطاً للأنصار لبني النجار، فدُرت به هل أجد له باباً، فلم أجد، فإذا ربيعٌ يدخل في جوف حائط من بئرٍ خارجةٍ فاحتفزت، فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، فقال: أبو هريرة ؟ فقلت: نعم يا رسول الله، قال: ما شأنك؟ قلت: كنتَ بين ظهرينا فقمتَ، فأبطأت علينا، فخشينا أن تُقتطع دوننا، ففزعنا فكنتُ أول من فزع، فأتيت هذا الحائط فاحتفزت، كما يحتفز الثعلب، وهؤلاء الناس ورائي، فقال: يا أبا هريرة، وأعطاني نعليه، اذهب بنعليّ هاتين، فمن لقيت من وراء هذا الحائط، يشهد أن لا إله الله " مستيقناً بها قلبه " فبشره بالجنة ) رواه مسلم.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلَّى الله وسلَّم على نبيَّنا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.